بمنأى عن إجبار المقاومة اللبنانية جيش الكيان على الانسحاب سنة 2000 ومواجهة 2006 القاسية، فقد شهد السابع من تشرين كارثة كبيرة لحقت بإسرائيل "على أرضها" لأول مرة في "حياتها". حجم العملية وضعف الدفاعات الإسرائيلية أصابت قادة الكيان بالصدمة السياسية والعسكرية والنفسية. أما الجمهور فقد دخل في مزاج الانهيار النفسي على نطاق واسع.
وقد كان المطلوب فوراً محو السابع من تشرين من ذاكرة التاريخ، بل كان مطلوباً القيام بفعل معجز يعيد عجلة الزمن إلى الوراء ليتم شطب ذلك اليوم من جدول الأيام.
وهكذا انطلقت الماكينة العسكرية المدججة بقدرات أمريكا الهائلة منذ اليوم الثاني بعد العملية لتقتل وتدمر وتبيد كل ما يقع تحت نظرها من أهداف عكسرية ومدنية وبنى تحتية لتحيل غزة إلى خراب كامل. وقد كان ذلك ضرورة لا مهرب منها من أجل استعادة صورة إسرائيل في ذهن جمهورها وجماهير الشعوب العربية المحيطة، وإلا دخلت إسرائيل في مرحلة هبوط تدريجي تقود إلى انهيارها.
كان لا بد من سلب الفلسطينيين تحديداً أي فرصة للادعاء بأنهم قد "أفلتوا بفعلتهم" أو أنهم انتصروا على الجيش العظيم الذي لا يقهر.
وقد حضر قادة العالم الاستعماري جميعاً ليعلنوا من تل أبيب تدشين الحرب التي لن تنتهي قبل استسلام غزة دون قيد أو شرط وصولاً إلى تسليم السلاح وخروج المقاومين على أقل تقدير بالطريقة التي خرجت بها منظمة التحرير من بيروت سنة 1982.
تواطأ العالم أجمع مع الجهد الاستعماري ورأس حربته الصهيونية، وباستثناء المقاومات اللبنانية والعراقية واليمنية الفقيرة، ودولة إيران التي ترعاها، وبعض الدول البعيدة المتعاطفة سياسياً مثل كوبا وفنزويلا، فإن العالم كله بدا متحداً في إسناد إسرائيل في مشروع الإبادة والإرهاب ضد المدنيين في غزة بغرض الوصول إلى هزيمة المقاومة هزيمة كاملة واستسلامها الكامل.
كانت الوحشية منفلتة من كل عقال، وكانت القوة المستخدمة أقصى ما يتخيله العقل بما يذكر بهتلر وتدمير وارسو والحلفاء وقصف درايسدن الألمانية وفرنسا في الجزائر.
ولكن ذلك كله انتهى بعد سنة ونصف بدت لأهل غزة عقوداً من الزمن، دون أن تستسلم المقاومة وصولاً إلى قبول نتانياهو بتجرع كأس السم المتمثل في توقيق صفقة لوقف إطلاق النار وتبادل للأسرى بين المقاومة وإسرائيل. يمكن لنا تقييم ما جرى في المجالات المختلفة على النحو التالي:
1. في المجال الأمني/الاستخباري: فشلت إسرائيل بكل ما لديها ولدى بريطانيا وأمريكا من إمكانيات في الوصول إلى الأسرى أو إلى "أسرار" المقاومة كلها. وكانت نتيجة ذلك اضطرار الكيان إلى الذهاب للاتفاق من أجل استعادة أسراه. وفي هذا السياق لا بد من الإشارة إلى سيارات كتائب القسام ومقاتليها الذي انتشروا في أرجاء غزة فور إعلان وقف إطلاق النار بما يكشف قدرة المقاومة "العجيبة" على إخفاء هذه المقدرات طوال هذه المدة. وبالمقارنة فإن المقاومة اللبنانية الأكثر خبرة تعرضت لنكسة اضطرتها إلى التراجع عن التزامها بدعم غزة نجمت تحديداً عن خرق أمني خطير في أجهزة البيجرز إضافة إلى خرق بشري ما مكن الكيان من اغتيال صف القيادة العليا كله بمن فيهم القائد الرمز نصر الله. وهذا الذي نقول لا ينتقص المقاومة اللبنانية بقدر ما يبين استعصاء المقاومة في غزة على الاختراق الاستخباري.
2. في المجال العسكري: بعد أن قضت إسرائيل مرات عدة على فرق المقاومة كلها، مثلما أعلنت في مناسبات مختلفة، كانت المقاومة تثبت وتعاود تقديم الأدلة والإثباتات أنها ما تزال على قيد الحياة، مواصلة قنص الجنود، وتدمير الدبابات وإطلاق الصواريخ حتى آخر ساعة. وبالمقارنة فإن جبهة التحرير الوطني الجزائري انتهت عسكرياً تقريباً سنة 1957 ولم يتبق منها إلا الجناح السياسي على الرغم من الظروف التاريخية كانت تعمل لصالح الجزائريين الذين تلقوا الدعم الأممي والعربي الكبير مقارنة بغزة الصغيرة المحاصرة من الجيران العرب بحزم لا يقل عن الحزم الصهيوني. وفي هذا المعنى فإن ما تم في غزة معجزة عسكرية/استراتيجية ستكون موضوعاً للبحث في جامعات العالم ومراكز أبحاثة دون شك.
3. في مضمار الجبهة الداخلية: ليس خافياً أن قصف البيوت والعمارات السكنية والجامعات والمشافي والشوارع...الخ كان سلوكاً إرهابياً بامتياز لا يهدف إلى تحقيق أية إنجازات عسكرية، وإنما يهدف إلى الضغط على الحاضنة الشعبية لتكفر بالمقاومة وتخرج ضدها. ومن المذهل بالفعل أن الناس ظلت صابرة محتسبة، بل إن جزءاً منها واصل القول علناً على الأقل بأن بيته وأولاده "فداء المقاومة" والوطن.
وقد استمر ذلك على الرغم من وحشية الممارسات الإسرائيلية وتواطؤ الإعلام العربي في معظمه، بل وبعض الفلسطيني، بغرض التشكيك والتثبيط عن طريق التباكي على الضحايا والتيئيس من إمكانية النصر...الخ لكن ذلك كله فشل بما يشير إلى نجاح المقاومة التعبوي في تحصين الجبهة الداخلية في وجه هذه الهجمة التي لا نظير لها في التاريخ. ولعل صمود الجماهير اليمنية وحده هو الذي يمكن أن يقارن بصمود الجماهير في غزة.
لا بد من الإقرار بموضوعية تامة أن المقاومة قد انتصرت انتصاراً لا لبس فيه. وهذا الذي نقول لا علاقة له "بهبل" الذين يرددون ببلاهة "الفكر اليومي" الذي لا علاقة له بالسياسة أن غزة قد دمرت وأن هناك عشرات الآلاف من الشهداء ومئات الآلاف من الجرحى، فهذا الذي يرددون هو الوضع "الطبيعي" للأسف في أي سياق من سياقات حرب التحرير.
الثورات والمقاومات في حروب التحرير لا تمتلك من الإمكانيات ما يكفي لإلحاق هزيمة عسكرية بالعدو في الميدان مباشرة أو مرة واحدة، فهذا أمر يتصل بالصراع بين الدول، أما الثورات فتدخل في مواجهة غير متكافئة معتمدة على قدرتها وقدرة جماهيرها على الصمود في حرب استنزاف طويلة "تقنع" المستعمر أن عليه الرضوخ لمطالبها وحقوقها المشروعة.
وقد نجحت المقاومة في غزة نجاحاً باهراً أمنياً وعسكرياً وتعبوياً في تقديم لوحة مذهلة من الشجاعة والإبداع والصبر والثبات الذي تمخض عن إقناع إسرائيل بقبول الهزيمة السياسية في هذه المواجهة بتخليها عن أهدافها الرئيسة جميعاً ودون استثناء.