اعتقلت الأجهزة الأمنية الفلسطينية، الصحفي محمد الأطرش، صباح يوم الخميس الموافق 2025/1/23 بعد مداهمة منزله وجرى إحالته إلى محكمة صلح الخليل. جاء هذا الاعتقال التعسفي بعد ساعات من منع السلطة الفلسطينية للصحفي الأطرش من التغطية الصحفية للعدوان الإسرائيلي الاستعماري الذي يستهدف مخيم ومدينة جنين والضفة الغربية. وسبق هذا الاعتقال حجب قناة الجزيرة الفضائية.
يأتي هذا الاعتقال التعسفي مع انتكاسة مستمرة، وغير مسبوقة، في حالة الحقوق والحريات لا سيما حرية التعبير والإعلام في ظل حكومة د. محمد مصطفى التي لم تنل ثقة المجلس التشريعي الفلسطيني، وفي ظل تحوّل تبعية الأجهزة الأمنية بالكامل من الحكومة للرئيس محمود عباس المنتهية ولايته الدستورية، بتشريع استثنائي، بعد إقرار ونشر القرار بقانون رقم 7 لسنة 2024 بشأن تعديل قانون الخدمة في قوى الأمن الفلسطينية رقم 8 لسنة 2005 وتعديلاته، خلافاً لأحكام القانون الأساسي الفلسطيني، وبما يُرتّب الانعدام الدستوري.
يُثير هذا الاعتقال التعسفي للصحفي الفلسطيني العديد من الأسئلة لا سيما بعد استمرار احتجاز حريته وإحالته إلى محكمة صلح الخليل، مما يعني أن النيابة العامة ترى أن عمل الصحفي الأطرش يعاقب عليه القانون. إذ لو رأت أن هذا العمل الصحفي لا يعاقب عليه القانون لأبدى وكيل النيابة رأيه بمذكرة وأرسلها للنائب العام للتصرف وإصدار قرار مُسبب بحفظ الدعوى الجزائية وإطلاق سراحه. أو لما باشرت الدعوى الجزائية أساساً في مواجهة الحريات الإعلامية خلافاً للدستور.
قرار محكمة صلح رام الله بحجب المواقع الإلكترونية التابعة للجزيرة
سبق وأكدنا أن قرار محكمة صلح رام الله بحجب عدد من المواقع الإلكترونية التابعة لشبكة الجزيرة الإعلامية، وكتاب النائب العام إلى وزير الاتصالات والاقتصاد الرقمي باتخاذ الإجراءات لتنفيذ قرار المحكمة وصولاً إلى التنفيذ الفعلي، تُشكل عدواناً سافراً على القانون الأساسي الفلسطيني المعدل (الدستور) وتفتقر إلى الشرعية القانونية وتطعن في الشرعية الدستورية للقضاء الفلسطيني والنيابة العامة بالإخلال بجوهر العدالة الدستورية وانتهاك مبدأ سيادة القانون كأساس للحكم في فلسطين الراسخ في قانوننا الأساسي. وانتهاكاً خطيراً للاتفاقيات الدولية التي انضمت إليها فلسطين لا سيما العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية في مجال حرية الرأي والإعلام والمعايير الدولية ذات الصلة. وأن هنالك "العشرات" من المواقع الإلكترونية التي جرى حجبها بذات المنهج. مع التذكير مجدداً بأنَّ حجب أيّ موقع إعلامي يتطلب "حكماً قضائياً" فاصلاً في الدعوى، تُكفل فيه ضمانات المحاكمة العادلة الراسخة، كما سيادة القانون، في باب الحقوق والحريات الدستورية في قانوننا الأساسي.
إجراءات التوقيف وطلب تمديد التوقيف في حالة الصحفي الأطرش
يُعتبر التوقيف من أخطر إجراءات التحقيق لمساسه الخطير بالحرية الشخصية وقرينة البراءة المُفترضة لأي مُتهم، المكفولة دستورياً، وله فلسفة وأصول في القانون الجزائي من قبيل خطورة المتهم على الأمن العام والسلامة العامة أو في الجرائم الخطيرة أو الخوف على حياة المتهم أو الخشية من ضياع أدلة جوهرية وفلسفات قانونية من هذا القبيل. وعليه، فإن التوقيف، ليس عقوبة، ولا ينبغي أن يكون كذلك، وهو غير مُبرر إطلاقاً في حالة الصحفي محمد الأطرش في حال جرى كما هو معتاد في تلك الأحوال بين الأمن والنيابة والقضاء. ويعكس في ذاته إساءة "ممنهجة" لاستخدام سلطة جوازية لا مكان لها دستورياً.
التكييف الدستوري للإجراءات التعسفية المتخذة بحق الصحفيين ووسائل الإعلام
الانتهاكات الخطيرة المستمرة للحقوق والحريات الدستورية لا سيما حرية الإعلام والتعبير، وضمانات المحاكمة العادلة، وسيادة القانون كأساس للحكم، يعني أننا أمام "جرائم دستورية" موصوفة ومستمرة ارتُكبت وما زالت وتستوجب المساءلة وإنصاف المتضررين. هذا ما تؤكده أحكام المادة (32) من القانون الأساسي الفلسطيني المعدل (الدستور) والتي شددت بوضوح على أن: "كل اعتداء على أي من الحريات الشخصية أو حرمة الحياة الخاصة للإنسان وغيرها من الحقوق والحريات العامة التي يكفلها القانون الأساسي أو القانون، جريمة لا تسقط الدعوى الجنائية ولا المدنية الناشئة عنها بالتقادم، وتضمن السلطة الوطنية تعويضاً عادلاً لمن وقع عليه الضرر".
سجل السلطة الفلسطينية بشأن الحقوق والحريات بعد الانضمام للاتفاقيات الدولية
أكدت اللجنة المَعنية بحقوق الإنسان التابعة للأمم المتحدة، التي تُراقب مدى امتثال السلطة الفلسطينية لأحكام العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية الذي انضمت إليه مطلع نيسان/ أبريل 2014 بدون تحفظات، على الصورة القاتمة للحقوق والحريات في فلسطين في تقريرها الصادر في شهر آب 2023 وعلى انعدام الاستقلالية والحياد في النيابة العامة والقضاء الفلسطيني وانعدام الشفافية في تعيين المدعين العامين والقضاة، وتفشي الفساد في المؤسسات الفلسطينية. وانتقدت مراراً استخدام "مصطلحات فضفاضة" كذرائع من أجل تقييد حرية التعبير وملاحقة الصحفيين ووسائل الإعلام والمدافعين عن حقوق الإنسان. وكذلك فعل المقرر الخاص للأمم المتحدة المعني بحرية الرأي والتعبير في شهر آب/أغسطس عام 2017 عندما أرسل مذكرة تفصيلية للحكومة الفلسطينية بشأن قرار بقانون الجرائم الإلكترونية الذي يستهدف الصحفيين ووسائل الإعلام ونشطاء الرأي والمدافعين عن حقوق الإنسان، وبشأن انتهاكات حرية الرأي والإعلام وملاحقة الصحفيين وحجب المواقع في فلسطين.
السبيل لإنقاذ الحقوق والحريات والنظام السياسي الفلسطيني
أدوات النظام الحالي غير صالحة للمساءلة على التدهور المتسارع في الحقوق والحريات وعلى رأسها حرية التعبير والإعلام والمنزلق الخطير نحو الدولة البوليسية، وتحقيق الإنصاف للضحايا وضمان عدم التكرار.
إنه وَهمُ "انتقال السلطة" تحت أجواء الخوف في مسار إعلان دستوري مُنعدِم، لاستمرار البقاء غير الشرعي في السلطة، عبر رسائل للخارج والداخل، دون تفويض شعبي، وفي عدوان سافر على الدستور.
يُمكن استخدام الأدوات الدولية لا سيما "الإجراءات الخاصة" للأمم المتحدة من خلال إرسال بلاغات بتلك الانتهاكات الخطيرة لحرية الرأي والحريات الإعلامية والاحتجاز التعسفي إلى العديد من "المقررين الخواص" في الأمم المتحدة وأبرزهم: المقرر الخاص للأمم المتحدة المعني بحرية الرأي والتعبير، والفريق العامل لدى الأمم المتحدة المعني بالاحتجاز التعسفي، والمقرر الخاص لدى الأمم المتحدة المعني باستقلال القضاة والمحامين، والمقرر الخاص بالمعني بتعزيز الحقيقة والعدالة والجبر وضمان عدم التكرار وغيرهم. واللجوء أيضاً إلى إجراء الشكاوى الخاص بانتهاكات حقوق الإنسان (الإجراء 1503) بشأن الأنماط الثابتة للانتهاكات الجسيمة للحقوق والحريات العامة بالأدلة الموثوقة في الحالة الفلسطينية. ومتابعة تلك الانتهاكات الخطيرة والممنهجة مع المفوض السامي لحقوق الإنسان كون المفوضية هي بمثابة وكيل الأمين العام للأمم المتحدة في ملف حقوق الإنسان والسكرتاريا لمجلس حقوق الإنسان بالأمم المتحدة.
لكني لا أرى حلاً إلا ببرنامج عدالة انتقالية شامل، للانتقال من عهد الظلم والاستبداد إلى النور والعدالة وسيادة القانون واحترام الكرامة. حتى مؤسسات العدالة ذاتها ومنظمات المجتمع المدني والقطاع الخاص والجامعات وغيرها يُمكن أن تخضع للمساءلة والمحاسبة في ظل برنامج عدالة انتقالية جاد وشامل حال ثبوت التورط في انتهاكات خطيرة لحقوق الإنسان. وصولاً للانتخابات الشاملة على المستوى الرسمي، وغير الرسمي، مع الانسداد المُزمِن في شرايين النظام السياسي، تجسيداً للحق الثابت والمقدس للفلسطينيين في الخلاص من الاحتلال الاستعماري وتقرير مستقبل نظامهم السياسي. وأرى أن العصيان المدني الحضاري والسلمي، ونزول الناس للشوارع والميادين ونصب الخيام والامتناع عن دفع الضرائب والرسوم وغيرها يمكن أن يُشكل نقطة انطلاق مُلهمة ومشروعة في القانون الدولي وفي تجارب الدول في مسار التحوُّل الديمقراطي وإعادة بناء النظام السياسي.