إنَّ السياسة في جوهرها انعكاس للصراع على الوجود والاعتراف، حيث تختلط القوة بالمصالح، والمبادئ بالمناورات. في هذا السياق، يظهر السلوك الإسرائيلي كحالة سياسية تنطلق من فلسفة الهيمنة والاستعلاء، مُتجذّرة في رؤية استعمارية لا ترى الآخر إلا مجرد وسيلة لتحقيق الذات. هذا السلوك ليس مجرد استثناء، بل هو جزء من منظومة أيديولوجية تستند إلى رؤية لا تعترف بالآخر، مما يجعل أي اتفاق معها اختبارًا لإرادة الشعوب وصبرها. فكيف لنا أن نقرأ هذه الظاهرة من خلال عدسة التاريخ السياسي لاتفاقيات إسرائيل مع خصومها؟
rnrn
إن مراجعة التجربة التاريخية تكشف لنا أن السلوك الإسرائيلي تجاه الاتفاقيات مع الفلسطينيين ولبنان يحمل طابعًا متكررًا من التلكؤ والانتقائية. ففي اتفاقيات أوسلو، التي كانت مفترضة أن تمثل خطوة نحو سلام شامل، عمدت إسرائيل إلى استثمار الاتفاق بما يخدم رؤيتها الأمنية والاقتصادية. كانت هذه الاتفاقيات بالنسبة لها أداة مرحلية لا التزامًا استراتيجيًا، حيث استفادت من بعض البنود وأهملت تنفيذ ما يخص حقوق الفلسطينيين الأساسية مثل الانسحاب من الأراضي المحتلة ووقف الاستيطان.
rnrn
الأمر ذاته تكرر مع الاتفاقية التي أُبرمت مع لبنان في عام 2024. ورغم ما حملته من التزامات واضحة، فإن إسرائيل سجلت أكثر من ألف خرق خلال فترة قصيرة. أضف إلى ذلك، رفضها الانسحاب ضمن المدة المحددة، ما يُبرز استراتيجيتها القائمة على أن "الوقت ليس مقدسًا" لتحقيق مكاسب سياسية وأمنية على حساب الطرف الآخر.
rnrn
في سياق الاتفاق الأخير مع حماس، يتضح أن إسرائيل تُعيد تدوير استراتيجياتها القديمة عبر أدوات حديثة. فهي تُتقن فن استخدام التفاصيل الصغيرة لصياغة سرديات تخدم مصالحها. على سبيل المثال، في مشهد المنتظرين للعودة إلى الشمال، استطاعت الآلة الإعلامية الإسرائيلية أن تُحوّل هذه المأساة الإنسانية إلى أداة لرسم صورة مفادها أن مصير آلاف الفلسطينيين لا يساوي شيئًا أمام مصير أسيرة واحدة. هذه السردية ليست جديدة؛ فهي امتداد لفكر استعماري يرى في المستعمَرين كائنات هامشية.
rnrn
الإعلام الإسرائيلي يُمارس ما يُعرف بـ "إدارة الإدراك، حيث يحاول تشكيل وعي الجمهور المحلي والدولي باتجاه يضمن التفوق الأخلاقي والسياسي لإسرائيل. وهذا ما تجلَّى بوضوح في محاولة الربط بين مصير المنتظرين ومصير الأسيرة أربيل، حيث أرادت إسرائيل تمرير رسالة ضمنية مفادها أن الاتفاقيات ليست إلا أداة مرنة تُطوعها وفق مصالحها.
rnrn
رغم المحاولات الإسرائيلية لفرض سرديتها، إلا أن الرد الفلسطيني جاء أكثر قوة وصلابة. وعلى الرغم من أن بعض المحللين الفلسطينيين انجروا وراء سردية مشوهة، إلا أن الأحداث على الأرض كانت كفيلة بتبديد هذه السردية.
rnrn
مع صباح يوم الاثنين 27 يناير 2025، ظهرت الحقيقة بشكل أوضح. لقد أثبت الفلسطينيون، أن الإرادة الصلبة قادرة على مواجهة الآلة الإسرائيلية. إن صمود الفلسطينيين في وجه محاولات الاحتلال للالتفاف على الاتفاقيات يعكس إدراكًا عميقًا بطبيعة الصراع وأبعاده. الصمود هنا لا يعني مجرد الثبات على الأرض، بل يتجاوز ذلك إلى تثبيت الحق الفلسطيني في الوعي الجمعي.
rnrn
من المهم أن نفهم أن السلوك الإسرائيلي ليس مجرد تصرفات سياسية، بل هو انعكاس لفلسفة أمنية عميقة تستند إلى فكرة التفوق المستمر. هذه الفلسفة تجعل إسرائيل تُفاضل بين البنود التي تحقق لها تفوقًا أمنيًا وتُلقي بالباقي جانبًا. في اتفاقيات أوسلو، ركزت على التنسيق الأمني مع السلطة الفلسطينية وأهملت تمامًا البنود المتعلقة بحقوق الفلسطينيين. وفي الاتفاق الأخير مع لبنان، كان الهدف الأساسي تحقيق مكاسب استراتيجية على الحدود الشمالية، دون الاكتراث بالالتزامات الزمنية أو الأخلاقية.
rnrn
هذه الفلسفة ليست منفصلة عن طبيعة المشروع الصهيوني، الذي يرى في القوة الوسيلة الأهم لتحقيق أهدافه. وسط هذه التعقيدات، يبرز دور الإعلام الفلسطيني كأداة مقاومة للسردية الإسرائيلية. فمن الضروري أن يكون الإعلام أكثر وعيًا بحجم التأثير الذي تملكه الرواية الإسرائيلية، وأن يعمل بشكل استباقي على تفكيك هذه السرديات وتقديم رواية بديلة. إن المعركة الإعلامية لا تقل أهمية عن المعركة السياسية أو العسكرية، لأنها معركة على وعي الشعوب وذاكرتها.
rnrn
من الأمثلة المهمة في هذا السياق، قدرة الإعلام الفلسطيني على إعادة توجيه النقاش نحو القضايا الأساسية بدلاً من الانجرار إلى التفاصيل التي تُروجها إسرائيل. فعلى سبيل المثال، بدلًا من التركيز على مصير أسيرة واحدة، يجب إبراز معاناة الآلاف من الفلسطينيين الذين ينتظرون العودة إلى بيوتهم، وتسليط الضوء على الانتهاكات الإسرائيلية اليومية.
rnrn
إنَّ أي قراءة للاتفاقيات مع إسرائيل يجب أن تستند إلى فهم عميق لطبيعة السلوك الإسرائيلي. فالتجارب التاريخية تُثبت أن إسرائيل لا تلتزم بالاتفاقيات إلا بقدر ما تخدم مصالحها الآنية. ومع ذلك، فإن صمود الفلسطينيين وإصرارهم على التمسك بحقوقهم قادر على كسر هذه الديناميكيات.
rn