الأحد  02 شباط 2025
LOGO
اشترك في خدمة الواتساب

الفلسطيني العائد

2025-02-02 07:06:42 AM
الفلسطيني العائد

 

في خضم الجدل، غير المجدي، حول سؤال النصر والهزيمة في الحرب التي يشنها الصهيوني الاستعماري على الوجود الفلسطيني منذ نكبة عام 1948 وحتى تكثيفها على غزة، فإن المشهد الذي تناقلته وسائل الإعلام لتجمهر الغزيين بعشرات الآلاف أمام الحاجز العسكري في محور وادي غزة "نتساريم"، إنما يحسم هذا الجدل. وهي صورة قول بليغ نافية تماما للمقولة الصهيونية التأسيسية القائمة على نفي وجود الفلسطيني أو تذويبه في مخيمات لجوئه أو إبادته فوق أرضه، فلم يفت في عضد الفلسطيني عنف المستعمر طوال 76 عاما بل زاده إصرارا على البقاء، والأدهى إصرار مستميتا على العودة. ولعل العقلية الغربية، وتلك الاستعمارية الصهيونية، قد لا تفهم المشهد، لأنه فوق إدراك تركيبة عقلها المريض استغلاليا، الذي يقيس الأمور بحساب الربح والخسارة؛ فهذا الغزي، النازح، المشرد، الفاقد، الجائع، المأوي في خيمة واهنة، يريد العودة إلى ركام ورماد ودمار وإلى جثامين لم تُكتشف بعد، فكيف يمكن أن يفهم هذا العقل مثل هذا التصرف؟ وكيف يمكنه أن يفهم مضامين قيمية، مثل الحق، والحنين، واختلاط الفرح بالألم وبالأمل، وحب المكان والالتصاق به حتى وإن لم يعد صالحا للعيش؟

لربما هناك ضرورة بتخصيص تعريف جديد تحت اصطلاح "اللاجئ الفلسطيني"، فهو الذي لا يشبه أي لاجئ آخر، لأنه لا يفر من وطنه خوفا على حياته رغم ممارسة أبشع أشكال العنف الاستعماري عليه من خلال الإبادة الجماعية، كما أن ممارسته الحياتية اليومية تقترح تضمين تعريف "اللاجئ الفلسطيني" شيئا من الممارسة القيمية المنطلقة من الحب والانتماء للوطن والمكان.

أما الجواب وإن كان معقدا، فإنه من قبيل السهل الممتنع أيضا، لأنه مستبطن في اصطلاح "اللاجئ"، الذي سيظل منطبقا على الفلسطيني ما ظلت النكبة مستمرة، وهذا سر انعقاد صعوبة التخلص من اللاجئ الفلسطيني، الذي ربط إنتهاء لجوئه بانتهاء الفعل النكبوي وإيقاف زمنه وممارساته. ويزداد الجواب سهولة وامتناعا مع استمرار الفلسطيني بإعادة صياغة وتطوير معنى ومفهوم "اللاجئ"، ليكون أوسع وأعمق وقيميا أكثر من تعريف القانون الدولي لمعنى اللجوء، والذي يحصره في الفرار من الوطن خوفا على الحياة، لأن ممارسة الفلسطيني للجوئه تقوض التعريف تماما، وتجعله غير قابل للانطباق على الفلسطيني في سياق التطور الخلاق لسياسات البقاء والصمود فوق الأرض. وهو أمر، لربما، يستدعي إما إعادة تعريف اللاجئ أو جعل الاصطلاح محددا بتخصيص تعريف جديد تحت اصطلاح "اللاجئ الفلسطيني"، فهو الذي لا يشبه أي لاجئ آخر، لأنه لا يفر من وطنه خوفا على حياته رغم ممارسة أبشع أشكال العنف الاستعماري عليه من خلال الإبادة الجماعية، كما أن ممارسته الحياتية اليومية، تقترح تضمين تعريف "اللاجئ الفلسطيني" شيئا من الممارسة القيمية المنطلقة من الحب والانتماء للوطن والمكان، والتثبيت بالممارسة العملية أن مفهوم "اللاجئ" يتضمن "العائد" حتما. وهي تدليل على كيف أن اصطلاح "اللاجئ الفلسطيني"، هو اصطلاح خاص جدا خصوصية الحالة الفلسطينية، وهو اصطلاح منتج أكثر من كونه سالبا، فكل ما ارتبط باللجوء الفلسطيني، وإن كان في مرحلة ما سالبا للهوية، فإنه أحدث إعادة إنتاج وإنبعاث من جديد للهوية ومكوناتها، فكل ما ارتبط باللجوء والشتات والمنفى الفلسطيني، كان فعلا يعيد تجديد الحضور الفلسطيني بقوة.

 اصطلاح "اللاجئ"، الذي سيظل منطبقا على الفلسطيني ما ظلت النكبة مستمرة، وهذا سر انعقاد صعوبة التخلص من اللاجئ الفلسطيني، الذي ربط إنتهاء لجوئه بانتهاء الفعل النكبوي وإيقاف زمنه وممارساته

إن إعادة التدوير لاصطلاح "اللاجئ الفلسطيني" هذه تدعوني لاستحضار حنا أرندت، تلك المثقفة اليهودية الناجية من الهولوكوست التي كتبت مرة مقالة مطولة في دوريةٍ مغمورة عام 1943، بعنوان "نحن اللاجئين"، تشرح فيها كيف أن مصطلح "اللاجئ" قد تغير مع اليهود بعد أن بدأت حقبة الهولوكوست تأخذ مجراها في تاريخ أوروبا المعاصر. وهي تفترض أن أهوال الحرب العالمية الثانية قد أنتجت نوعا جديدا من البشر خارج نطاق التعريف الإنساني أو الاعتراف به إنسانا، قاصدة اليهودي المحروم من الحقوق والمواطنة أو من الاحتفاظ أو الجهر بهويته اليهودية. وهي بذلك تعلن صراحة، في بداية مقالتها، كيف أن اليهود لا يحبون تسميتهم بـ "اللاجئين"، بل يفضلون تسمية أنفسهم "الوافدين الجدد"، أو "المهاجرين"، وأنهم تركوا بلادهم، حتى قبل اندلاع الحرب، بمحض إرادتهم، وإلى بلدان من اختيارهم، وأنهم تركوها لأنه لم يعد يناسبهم أن يظلوا فيها، أو تركوها لأسباب اقتصادية بحتة. ومن جملها تلك يمكن صياغة كل ما هو نقيضُ لهذه الكراهية لكلمة لاجئ، عندما يُصاغ أو يُعرف اللاجئ الفلسطيني، على أساس أنه ذلك التواق للعودة، والذي يريد نقض اللجوء لا لأنه يكرهه، بل لأنه يكره نكبته، وزمن نكبته والذي على علّلاته حمل معه من لجوئه مضامين خلاصية، أي الخلاص أولا وأخيرا من النكبة.

 

دائما ما يكرر الفلسطيني طقوسيا شكلا من أشكال العودة المتوقعة من رؤيته المبنية على ما سيكون. وفعليا، يضطرنا للتفكير بشكل انعكاسي وتأملي في معطيات اللجوء الذي وقع في نكبة عام 1948

هكذا، ولهذا، يستمر الفلسطيني في تكرار نمط العودة الأبدية، لكن ليس بالصيغة النيتشوية العدمية العبثية، وإنما بالصيغة الفلسطينية، التي تبدأ دائما كشكل من أشكال ممارسة التذكر النافية للنسيان، في إحياء ذكرى النكبة من كل عام، وفي تنظيم مسيرات العودة الكبرى، وفي الزحف من دول اللجوء المجاورة إلى حدود "إسرائيل" المصطنعة نحو قرى الأصل والمنشأ. دائما ما يكرر الفلسطيني طقوسيا شكلا من أشكال العودة المتوقعة من رؤيته المبنية على ما سيكون. وفعليا، يضطرنا للتفكير بشكل انعكاسي وتأملي في معطيات اللجوء الذي وقع في نكبة عام 1948، فهل كان الفلسطيني سيرحل لو كان مطلعا أكثر وعلى دراية أكبر بخبايا الشخصية الصهيوينة وبحجم المؤامرة الاستعمارية ضد فلسطين أو كان قادرا على تفنيد بروباغندا التخويف الصهيونية. لن يكون الجواب هنا إلا تخمينا، لأن سردية التاريخ قد كُتبت وصارت حقائق تاريخية، أهمها حقيقة اللجوء، غير أن انعكاسية التفكير هنا، وضمن هذه المشهدية المذهلة للغزين، إنما تضحد العديد من الشائعات التاريخية التي التصقت باللاجئ الفلسطيني، ووصمته بعار الفرار من أرضه أو بيعها أو تركها، وذلك دون الاكتراث إلى وقائع مضادة أخرى أهمها استمرارية حضور المخيم كعلامة سيميائية نافية للفرار ومكثفة التركيز على حق العودة، وهو ما يشدد عليه الغزيين اليوم "أننا لن نرحل ونريد العودة".

يستمر الفلسطيني بإعادة صياغة وتطوير معنى ومفهوم "اللاجئ" ليكون أوسع وأعمق وقيميا أكثر من تعريف القانون الدولي لمعنى اللجوء

وإن كانت عودة الغزيين اليوم هي عودة صغرى من الجنوب إلى الشمال، فهي مشهد مطلبي مستقبلي بالعودة الكبرى، عودة من الشتات والمنفى واللجوء إلى القرى والبلدات والخرب التي هُجّر كل لاجئ منها. وهي مقولة تضرب الفكرة الاستعمارية في صلبها وتنقضها في جوهرها، بل هي ضربة قاضية للمخيال الاستعماري المبني على الأساطير وسراب الأهواء والاختزالات الثقافية، وضربة له في إنسانيته التي تدعي التفوق، لتؤكد له أنه ليس إنسانا متفوقا، بل وحشا متفوقا، والأهم من ذلك كله التأكيد على أن قيمه لا تصلح لفهم حقيقة ما يعيشه اللاجئ الفلسطيني، وكيف أنه ينتصر دائما لعودته.