أشبع المحللون صور التبادل تحليلاً لرسائلها التي نجحت كتائب القسام والسرايا بإيصالها. ليس مهماً هنا اتهام بعض أقلام سلطة أوسلو وتنظيمها أن الصور هدفها (الاستعراض) لتأكيد سلطة حماس. ومالو؟ استعراضي استعراضي، طالما أن هذا الاستعراض هدفه تأكيد فشل أحد أهم أهداف الصهاينة بإنهاء سلطة حماس المدنية، وتوجيه ضربة نفسية موجعة لمجتمع المستوطنين، فلا بأس من إيصال رسالة لهم أن هدفكم لم يتحقق. وعليه يمكن فهم الهستيريا الصهيونية التي رافقت تحليلاتهم لصور التبادل. مظاهر للقوة، لاستعراض القدرة على التنظيم المحكم، للبراعة الإعلامية التي تروم التأثير النفسي على مجتمع المستوطنين، وكل ذلك يعكس، وهذا المهم بتقديري، أن حركة المقاومة، وتحديداً حركتي حماس والجهاد تمتلك، بعد 15 شهراً من القتال والخسائر البشرية الجدية فعلاً، بنية تنظيمية تستطيع تقديم تلك الصور بما تحمله من رسائل عديدة. لذلك صح القول فشلت حربهم إلا بالإبادة والقتل الهمجي والتجويع، فهنا ينجح الفاشيون ويبرعون.
والمهم ليس المناكفات السياسية مع المقاومة، والتحريض العدائي، الذي يفتقد أحياناً كثيرة للحد الأدنى من الحصافة والأخلاقية الوطنية، بل المهم كيف يمكن لشعبنا استثمار قوة المقاومة وصورتها التي ظهرت بها في الاتفاق والتبادل، لدحر التوجه الفاشي لترامب ونتنياهو وسموتريتش بإنعاش مخطط تهجير الغزيين لمصر والأردن.
صحيح أن المقاومة خسرت الكثير من قدراتها البشرية والعسكرية، ولكنها كانت قادرة على إفشال كل ما خطط له العدو، (وجعجع) له نتنياهو طوال 15 شهراً. والهزيمة والانتصار في نضال حركات التحرر لا يقاسان بالخسائر البشرية، فدائما خسائر الشعوب أكبر بكثير، وذلك منطقي تماماً بفعل التفوق التقني الهائل للمستعمِرين، بل يقاس بتحقيق الأهداف من عدمه. هذا واقع يراه شعبنا، وتسمعه على لسان العائدين لشمال القطاع رغم أن عودتهم للاحياة بكل ما في الكلمة من معنى. لا بيوت ولا مرافق، ومع ذلك يرقصون فرحاً ويشيدون بالمقاومة. هذه المقاومة لا تراها أقلام سلطة أوسلو، أو تراها وتغمض عينيها عليها، وتستمر بحملتها التحريضية ضد المقاومة في غزة والضفة.
من المؤلم فعلاً أن تجبهك أقلام تعيد حرفياً تكرار ما يردده الإعلام الصهيوني وأفيخاي أدرعي. حماس تتحمل مسؤولية الكارثة التي حلّت بغزة، وفي هذا، دون تحليل كثير، تبرئة للمجرمين الصهاينة. فصائل المقاومة ذراع لإيران في الضفة وغزة، وهذا ذات ما يقوله نتنياهو. على المقاومة تسليم السلطة في غزة لرام الله، وهذا مطلب صهيوني بإنهاء حكم حماس وإن لم يكن، حتى اللحظة، يشمل الموافقة على عودة سلطة أوسلو لحكم القطاع، رغم كل خدماتها، أما آخر (الإبداعات) فهو خروج البعض للقول إن اتفاق أوسلو أفضل من اتفاق حماس الأخير!.
فعلاً من المؤلم إصرار نخبة سلطة أوسلو، والناطقين باسمها وكتابها، وهم ذاتهم نخبة المنظمة الحالية، لهيمنة الأولى تماماً على الثانية، استمرارهم بنهج مخاصمة، لا بل والعداء للمقاومة في وقت تنبهر جماهير شعبنا، وهي تجلس أمام ما تبثه الفضائيات بعظمة المقاومة التي تطرح نفسها كند وتتمتع بإرادة التحدي وفق مقولة (رأس برأس) أمام الصهيوني، كعدو في أرض المعركة وكمفاوض على طاولة المفاوضات.
إننا أمام قيم، التحدي والندية ورأس برأس، غابت عن السياسة الرسمية الفلسطينية منذ 35 عاماً هي عمر أوسلو وإذلالاته. دون تلكم القيم لا قدرة على إدارة الصراع مع عدو فاشي يمارس الإبادة والتجويع كسياسة رسمية، ولا يتورع عن القول علانية بتهجير شعبنا.
ينبغي إقرار حقيقة. المقاومة أثبتت قدرتها على مقارعة المشروع الصهيوني، وخلق توازنات جديدة محلية وعالمية لصالح شعبنا وقضيته، وإدخال مجتمع المستوطنين في أزمة جدية نتيجة انكساراتهم وإخفاقاتهم العسكرية، خاصة الجيش والمؤسسات الاستخبارية والأمنية. لا يمكن لجيش الإبادة، كمنطق عسكري، أن يفخر بنسبة البيوت المهدمة ولا بعدد الآلاف الذين قتلهم ولا بتجويعه لسكان الشمال تحديداً، ولا برأسه المطلوب كمجرم حرب، بل يمكنه، وهو يفعل، أن يظل لسنوات طويلة يستخلص العبر من هزيمته يوم 7 أكتوبر، وانكساراته المتتالية منذ 15 شهراً، وعدم تحقيقه أية نتيجة عسكرية، وحتى عندما يقولون قتلنا 17 ألف من مقاتلي حماس، تنتشر تقديرات استخبارية مؤكدة أن حماس جنّدت منذ 7 أكتوبر بين 12-15 ألف مقاتل جديد. صور التبادل تعكس كل ذلك.
أما وأن مشروع التهجير جدي فنعم، ولكنه ليس قدراً. لقد سبق لرجل البيت الأبيض صاحب ثقافة الكاوبوي، ثقافة الرجل الأبيض الأمريكي المستعمِر، أن حاول تنفيذ صفقة القرن وتعميم الاتفاقيات الإبراهيمية ودمج الكيان الصهيوني بالكامل، فماذا كانت النتيجة؟ المقاومة، والمقاومة فقط، قلبت الطاولة على كل هذا المشروع.
يمكن للتهجير أن يملك مقومات النجاح؟ نعم يمكن. ربما تجدر الإشارة هنا لما نقلته الأخبار اللبنانية قبل أيام عن تفاصيل يتم نقاشها مع السلطات في مصر لكيفية استيعاب مئات آلاف الغزيين في مصر. نظام حاصر القطاع مع الصهاينة طوال 17 عاماً ووقف ذليلاً لم يدافع حتى عن سيادته على الجهة المصرية لمعبر رفح، ما ساهم في تجويع شعبنا، نظام كهذا يمكن، حسب تقرير الأخبار اللبنانية، أن يوافق على استيعاب مئات الآلاف مقابل استثمارات مالية أمريكية، مع الوضع البائس للاقتصاد المصري، ومع حل قضية سد النهضة، لصالح النظام بعد عجزه عن الدفاع عن حقوقه المائية في مياه النيل.
ولكن هل يرضى شعبنا التهجير؟. طوال 15 شهراً لم نشهد اندفاعاً بشرياً كانت سترحب به دولة الإبادة لاختراق الحدود باتجاه مصر، وما كان يمكن للسلطات المصرية منعه إن كان تدفقاً حاشداً. وبعد 15 شهراً نرى تعلقاً من مئات الآلاف بالعودة للشمال الذي تنعدم فيه الحياة أصلاً. يبدو أننا أمام ثقافتين: الثقافة الأمريكية الرأسمالية التي يمثلها رجل البيت الأبيض، والتي لا تقيم وزناً للمكان بقدر الربح والملكية الخاصة، وبين ثقافة، هي من جذور فلاحية على أية حال، تنتمي للمكان والأرض حتى على حساب ظروف الحياة الأفضل. هذا ما لا يفهمه الأمريكي أو الإسرائيلي. أما أن يكون هناك مَنْ يرغب ببدء حياة جديدة خارج القطاع فبالتأكيد يوجد، ولكن كم عدد هؤلاء ممن يملكون الإمكانية المالية لذلك، ولا يحركهم الانتماء لأرضهم؟
أما الأردن فلا يمكنه مجرد التفكير بالتعاطي مع هكذا مشروع، إذ فيه ضربة في مقتل للأمن القومي الأردني وللديموغرافيا الأردنية.
ولكن ومع ذلك لا يكفي الرهان على الموقف الشعبي دون أدوات تنظيمية سياسية تؤطّره وتقوده لمجابهة مخطط التهجير، وهنا لا بد من الخروج من الدائرة التقليدية التي لم تؤدِ لنتيجة طوال 35 سنة ونعني دائرة المصالحة وإعادة بناء منظمة التحرير. مع النخبة الحالية أكاد أجزم أن لا مصالحة نهائياً، ورفضها لمشروع لجنة الإسناد، وإصرارها على عزل حماس دليل أخير وليس وحيدا، لذلك فمن العبث استمرار لوك ذات الشعار. ينبغي البحث عن صيغة تجمع كل حريص على هزيمة مشروع ترامب وسموتريتش ونتنياهو، صيغة تستثمر سياسياً قوة المقاومة، لا تعاديها، وتجمع كل القوى والتيارات والمؤسسات والفعاليات والتجمعات، صيغة تضع الفارق الواضح بين نهج يسعى لتحديد أشكال المقاومة في لحظة معينة ومكان معين، كالضفة اليوم، تراعي القدرات والإمكانيات وتكتيكات العمل المسلح في لحظة، ونهج هو معادٍ أصلاً للمقاومة المسلحة، أي مقاومة مسلحة، في أي لحظة وأي مكان، ويقدّس التنسيق الأمني، ولا يجد غضاضة في رفع سلاحه في وجه المقاومين. هنا ينبغي للعقل السياسي الفلسطيني أن يفعل فعله بإيجاد تلك الصيغة.