يُشتق مصطلح "البقاء للأصلح" من نظرية التطوُّر التي وضَعها تشارلز داروين، ويشير إلى آلية الانتقاء الطبيعي التي تفسِّر كيف تتكيَّف جينات الكائنات الحية أو سلوكياتها مع الظروف البيئية المتغيِّرة عَبْر الأجيال. وفقاً لهذا المفهوم، تَبْقى الكائنات التي تتمتَّع بقدرة أكبر على التكيُّف مع البيئات المتغيرة قادرة على نقْل خصائصها الجينية إلى الأجيال اللاحقة، بينما تختفي تلك التي تَفتقر إلى هذه القدرة بمرور الوقت. ومن منظور أكثر دِقة، يُفهم هذا المصطلح على أنه بقاء النوع الذي ينجح في ترْك أكبر عدد ممْكن من النُّسخ من نفسه في الأجيال المستقبلية.
في مملكة الحيوان، تُبنى الصراعات من أجل البقاء على مبدأ منْح الفريسة، حتى الأضعف منها، فرصة عادلة للبقاء والتكاثر. في حين أن الحيوانات المفترِسة تميل بطبيعتها إلى استهداف الفرائس الأصغر أو الأضعف ظاهرياً، تعمل الطبيعة على تطوير آليات تعويضية بارعة تَضمن التوازن وتساعِد الفريسة في الدفاع عن نفسها والبقاء على قيد الحياة.
تُحَفِّز التفاعلات بين المفترِس والفريسة عمليات تطوُّرية تُنتِج تكيُّفات معقَّدة تزيد من فرص بقاء الفريسة ونجاحها الإنجابي. هذه التكيُّفات تشمل استراتيجيات مختلفة للتعامل مع مراحل الافتراس المتنوعة، بما في ذلك التَّخَفِّي لتجنُّب الكشف، صَدّ الهجمات، أو الفرار عند انقضاض المفترِس. وتُعتبر هذه التكيُّفات حاسمة، حيث يمْكن أن تكون الفرق الفاصل بين بقاء النوع أو انقراضه.
يتطلَّب التكيُّف استجابة دقيقة للبيئة المحيطة والتهديدات المحتملة. بشكل عام، الأنواع الأصغر والأكثر ضعفاً في الطبيعة، رغم مظهرها الهش، ليست بالضرورة الأقل خطورة. بل إنها غالباً ما تتفوَّق في الرَّصْد، والتخفِّي، والرّدع. بالإضافة إلى ذلك، فإنها تُطوِّر مهارات بقاء استثنائية بفضل يقظتها المتزايدة نتيجة التهديدات المستمرّة. هذه اليقظة تعزِّز قدرتها على البقاء، وتَضمَن انتقال سماتها الحيوية إلى الأجيال القادمة. علاوة على ذلك، يمَكِّنها صغر حجمها من استكشاف بيئات يصعب الوصول إليها من قِبل المفترِسات. كما أن الكثير منها يمتلك أسلحة بيولوجية قاتلة، إضافة إلى قدرات حسّية استثنائية تتفوَّق بكثير على قدرات المفترِسات، مما يجعلها متقدِّمة في كثير من النواحي على الرغم من ضعفها الظاهري.
يستدعي باسل الأعرج، المعروف بـ"الشهيد المثقف"، مقارنة بيئية بليغة بين العلاقة بين النيص البرغوث ومفترِسَيْهما، وبين كفاح الفلسطينيين للبقاء في مواجهة نظام الاحتلال الإسرائيلي. يسلِّط هذا التشبيه الضوء على اختلال التوازن الهائل في القوة بين الاحتلال والمقاومة الفلسطينية.
في مقالته المنشورة عام 2013 بعنوان "عِش نيصاً وقاتل كالبرغوث"، يَستحضر الأعرج تشبيهات من عالَم الحيوان لفهم وتعزيز أساليب النضال الفلسطيني. يقول: «يَستخدم النيص في تنقُّله ودخوله وخروجه عِدَّة طُرق محدَّدة ومعيّنة يبدو وكأنها مدروسة، ويملك نوعاً غريباً من "البارانويا"، أو ما نُسميه فلسطينياً بالحسّ الأمنيّ.... يَملك البرغوث استراتيجية قتالية وتكتيك وتقنيات مذهلة؛ فهو يخز ويقفز ثم يعاود الوخز ويَتجنَّب بذكاء شديد اليد أو القدم الساعية إلى سحقه. إنه لا يَستهدف قتْل خصمه (بمعنى القضاء على كامل منظومة العدو، كالكلب مثلاً) بل إنهاكه والحصول على غذائه منه، وإزعاجه، وإثارته، ومنعه من الراحة، وإتلاف أعصابه ومعنوياته...».
يشكِّل هذا التشبيه البليغ إطاراً عميقاً لفهم النضال الفلسطيني، حيث يُبرز قدرة الفلسطينيين على التكيُّف مع واقع الحياة الوحشية تحت الاحتلال. رغم القسوة الشديدة لهذا الوجود، فإنه يعزِّز الحواس والمهارات الحدسية لدى الفلسطينيين بشكل مبكر. هذا الوجود القَلِق والمحفوف بالمخاطر يَفرِض حالة دائمة من انعدام الأمان، والهشاشة، والوهن، مما يُجبر الفلسطينيين على تطوير مهارات بقاء متقدِّمة تكفل لهم مواجهة التحدّيات المستمرّة، إذا افترضنا أنهم تمكَّنوا من النجاة أصلاً.
تفوَّقت إمكانات الأعرج في البقاء على تلك التي يمتلكها أقرانه، إذ صَقلت تجربته القلقة قدراته، مكَّنته من تطوير استراتيجيات دفاعية مُتقَنة مستوحاة من حَذَر النيص. كان يتنقَّل بمفرده عْبر تضاريس خطرة، باحثاً عن فرَصِه بمفرده، مقاتلاً بمفرده، معتمِداً على حدسه الفطري وحواسّه المتطوِّرة. وعلى الرغم من تعرُّضه لمطاردة شرسة استمرّت لأشهر، انتهت بانقضاض مفترِسه عليه، فإن مسيرته كانت شاهدة على كفاءته في توجيه ضربات موجِعة لأعدائه. اتّسم نهجه في المواجهة بالصمت والتخفّي، مشابهاً لسلوك البرغوث الذي لا يُدرَك عمْق لسْعَتِه إلا بَعد انسحابه، تاركاً خلْفه أثراً بالغاً.
بينما أظهر الأعرج خصائص تكيُّفية فريدة مكّنته من المناورة، والهجوم، والتّخفّي لفترة من الزمن، إلا أن سقوطه كان محتماً في النهاية. ففي صراع البقاء، يَسقط الأفراد البارزون أيضاً، بل هم الأكثر عرضة للافتراس بسبب سلوكهم الجاذب للانتباه الذي يجعلهم هدفاً واضحاً لخصومهم.
هذا الواقع يتجلّى بوضوح في تجربة المثقَّفين الفلسطينيين البارزين، مثل غسان كنفاني، ووائل زعيتر، وكمال ناصر، وحنا ميخائيل، الذين اغتالتهم إسرائيل في محاولات ممنهجة لقمع الفكر الفلسطيني المقاوم. اغتيالهم لم يكن مجرَّد استهداف لأجسادهم، بل كان يعكس خوفاً عميقاً من فلسفتهم الوجودية ومن قدرتهم على تشكيل الوعي الفلسطيني والدولي. يخشى الإسرائيليون عقول الفلسطينيين؛ هذه حقيقة لا يمْكن إنكارها.
لم تَقتل إسرائيل الأعرج بدافع استهتارها بالحياة الفلسطينية، أو ميولها المنحرفة نحو قتْل الفلسطينيين كما قد يتبادر للبعض. بل على العكس، كان قراراً مدروساً ينمّ عن إدراكها العميق لقيمته الفكرية، واغتالته بوعي كامل لإيقاف تَدَفُّق فلسفته الاستثنائية. من خلال اغتياله، أزالت إسرائيل مُنظِّراً، ومفكّراً، ومحارباً من الطراز الرفيع، وأَخمدت صوته ومَنعت انتقال جيناته البيولوجية الخطيرة. ومع ذلك، تمكَّن الأعرج، حتى بَعْد رحيله، من الحفاظ على إرثه الفلسفي، مستفيداً من الميزة التنافسية للأفكار على الجينات؛ إذ تمتاز الأفكار بقدرتها على الانتقال عبْر الكتابة والتوثيق، دون الاعتماد على العمليات البيولوجية التكاثرية. وهذا ما يجعلها عصيّة على الإخماد، لأنها لا تنضبط بقيود الزمن أو الجسد.
وفي هذا السياق، يَتَّضح جلياً أن الفلسطينيين، رغم كونهم الطَّرف الأضعف في هذه المعادلة، هم الأكثر قدرة على الاستمرار، بفضل تدريب البقاء المكثَّف الذي تلقّوه. سأقوم الآن بشرح الأسس المعرفية التي تُشكِّل قاعدة حُجتي.
تدريب البقاء: فن الصمود والتكيُّف
بالرغم من قُبحه، فإن الحضور المكثَّف للاحتلال العسكري الإسرائيلي في حياة الأطفال الفلسطينيين يولِّد لديهم وعياً مبكراً بمفهوم "الخطَر"، مما قد يكون له تداعيات نفسية عميقة على المدى الطويل، حيث يزيد من احتمالية إصابتهم باضطرابات القلق واضطرابات ما بعد الصدمة (PTSD) في المستقبل.
معظم الفلسطينيين الذين عايشوا الانتفاضتين الفلسطينيتين الأولى والثانية في القدس، والضفة الغربية، وقطاع غزة خلال طفولتهم، يعانون اليوم من أحد أشكال اضطراب القلق أو اضطرابات ما بعد الصدمة، على الأقل. ومع ذلك، فإن الوعي الفردي بطبيعة هذه الحالات يَظلّ محدوداً، حيث أصبح انتشار هذه الاضطرابات جزءاً من البنية النفسية الجماعية، لدرجة تقبُّلها ضمنياً كجزء من الواقع الاجتماعي الفلسطيني.
النظام القِيَمي الصارم الذي حَكَم الأُطر المجتمعية الفلسطينية خلال الانتفاضة الشعبية الأولى يمثِّل تجربة فريدة ذات أبعاد تَستحق دراسة علمية معمَّقة. تَمثَّل هذا النظام في مجموعة من القواعد الصارمة التي سَحقَت عفوية الطفولة، لكنها في الوقت نفسه، مَهَّدت الطريق لثقافة وطنية متينة، مما ساهَم في ترسيخ قِيم جماعية مثل التضحية، والصمود، والانتماء الوطني، التي أصبحت حَجر الزاوية في تشكيل هُوية وطنية متجذّرة.
كان على الطفل الفلسطيني أن يدرِك، منذ نعومة أظفاره، أن ظروف حياته بعيدة كل البعد عن أن تكون طبيعية، مقارنة بظروف حياة أقرانه في أماكن أخرى من العالَم. فقد نشأ في بيئة تُعرِّفه على مفهوم الخطَر ليس كمجرَّد فكرة نظرية، بل كواقع يومي يعيشه بكل تفاصيله. كان الاحتلال العسكري حاضراً في كل جنبات حياته، حيث الشهداء، والأسرى، والجرحى موضوعات مألوفة في الأحاديث اليومية. كانت المرْكبات العسكرية المدرَّعة تجوب الأحياء باستمرار، بينما يطارِد الجنود النشطاء بلا هوادة، ويطلقون النار عليهم بهدف القتل، ويحطِّمون عظامهم بلا رحمة. يُداهِم الجنود الهمجيِّون منازل الآمنين تحت جنح الليل، ينفثون رائحتهم النتنة، كما لو أن أسراباً من البكتيريا تَجتاح طهارة البيوت ونقائها. كانت تلك المداهمات جزءاً من استراتيجية ميكافيلية تهدف إلى بَثّ الرعب في نفوس الفلسطينيين، وترسيخ الهيمنة عبْر استعراض يومي للقوة المفرطة والوحشية الممنهجة.
أحد أكثر المشاهد قسوة في الانتفاضة الأولى، الذي يَظَلّ محفوراً في الذاكرة الجماعية الفلسطينية، قيام جنود إسرائيليين بالاعتداء الوحشي على فِتية فلسطينيين، حيث يقوم جنديان بتثبيت وتسوية أطراف الفِتية باستقامة، بينما يتَولّى آخرون تحطيم عظامهم بهمجية واستمتاع، باستخدام حَجَر صوان كبير، في محاولة لسحْق مقاومتهم وكَسْرِ إرادتهم.
في تلك الفترة، حُرم الأطفال الفلسطينيون من رفاهية التفرُّغ الكامل لطفولتهم. جيلي، على وجه الخصوص، عايش تجارب استثنائية في قسوتها، جعلتنا نواجه مشاعر معقَّدة في سِن صغيرة نسبياً، تجارب قد لا يَمُرّ بها الكثيرون حتى في مراحل متقدّمة من حياتهم. لم تكن تلك التجارب، على الرغم من صعوبتها، مجرَّد مَصْدر للمعاناة، بل كانت قوة دافعة لصياغة وعينا الوطني السوي. لقد شَكَّلت جزءاً لا يتجزأ من تكويننا النفسي والاجتماعي، وجَعَلت طفولتَنا استثناءً من البراءة التي يَتمتَّع بها أطفال العالم.
رغم أن رحلتنا كانت محفوفة بالتحدّيات والمخاطر، إلا أنها شَكَّلت تجربة غنية بالدروس العميقة التي يصعب على الآخرين فهْمها من الخارج. أَسهم الخطَر المستمر الذي خيَّم على طفولتنا في تعزيز يقظتنا وتسريع نُضْجنا في السنوات اللاحقة، مما جَعَلنا نتعامل مع الحياة بوعي مُفرط، وحساسية عالية، واتّصال أعمق مع كل ما يحيط بنا.
العديد من الناجين من تلك التجارب، وربما بعض من يقرأون هذه الكلمات الآن، قد يعترفون بأن حِدَّة حواسّهم، التي تطوَّرت نتيجة التعرُّض الدائم للخطر، أصبحت عبئاً نفسياً في حياتهم اليومية. يعيشون في حالة دائمة من التوقُّع والترقُّب، متأهِّبين لمواجهة أي تهديد محتمَل. هذه الحالة تُبقيهم في استعداد دائم، ذهنياً وحسِّياً، لاستيعاب المحيط وتحليل تفاصيله بسرعة فائقة. لم يَعُد هذا مجرَّد رَدّ فِعل طارئ، بل أصبح جزءاً متأصّلاً في بنيتهم النفسية وسلوكهم. استجاباتهم السريعة تَجعل منهم مراقِبين بارعين للخطر، يتوقَّعونه حتى في لحظات السكون. يمتلكون إمكانات سَمعيّة فائقة، تَظهر عندما تُحجب رؤيتهم، مما يتيح لهم معالجة الأصوات المكتَشفة بسرعة ذهنية مذهلة لتقييم مستوى التهديد المحتمل. ومن ضمن هذه الإمكانات، قدرتهم على التمييز بين البصمات الصوتية المختلفة، مثل تلك الناتجة عن أنواع متعدّدة من الأسلحة النارية، ومن ثم تحديد السلاح المستخدَم بناءً على تلك الإشارات السمعية. كما يمْكنهم تحليل نمط إطلاق النار للتمييز بين النيران الصديقة وتلك الصادرة عن العدو. كقاعدة عامة، يدرِكون أن سماع صوت أزيز الرصاصة يعني أنهم بخير، لأن الطلقة القاتلة عادةً ما تَصل صامتة.
علاوة على ذلك، يمتلك العديد من "المدنيين" الفلسطينيين قدرة مذهلة على التعرُّف بدِقّة على طراز الطائرة الإسرائيلية التي قصفت للتَّو برجاً سكنياً في مدينة غزة أو مخيم الشجاعية للاجئين، فقط من خلال هديرها أو مراقبة نمطها الهجومي. هذه القدرة ليست مجرَّد معرفة سطحية، بل ملَكة بديهية متطوِّرة تشكَّلت عبْر سنوات من المواجهة والتجربة. تمتد هذه المهارة أيضاً إلى التمييز بين الوحدات العسكرية الإسرائيلية التي تُنفِّذ عملياتها في أماكن مثل مخيم جنين أو البلدة القديمة في نابلس. من زِيِّ الجنود أو نوع الآليات العسكرية المستخدمة، يستطيع الفلسطينيون توقُّع حجم الكارثة المقبلة وكأنهم يقرأون ملامح الموت في تفاصيل المهاجمين.
إضافةً إلى ذلك، يُظهر الفلسطينيون قدرة دقيقة على قراءة تعابير وجوه الجنود الإسرائيليين، ونبرات أصواتهم، وإيماءاتهم الجسدية. هذه المهارة تُتيح لهم قياس مستوى خوف الجندي وارتباكه في لحظات حرجة. مثل هذا التقييم الفوري يُسهم في بناء استراتيجيات آنية للتعامل مع المواقف المتوترة. فعلى سبيل المثال، يدرك الفلسطينيون أن الجندي الذي تَظهر عليه علامات القلق والارتباك، وهي حالة شائعة، يكون أكثر ميلاً لاستخدام القوة القاتلة إذا شعر بأي تهديد. وعلى النقيض، فإن هدوء ملامح الجندي وسلوكه يُعتبر إشارة إيجابية قد تعني فرصة أكبر للنجاة. في هذا السياق، تتجاوز القدرة على قراءة تعابير الوجه ولغة الجسد حدود الذكاء الاجتماعي أو العاطفي، لتصبح مهارة بقاء حاسمة. هي ليست مجرَّد استجابة للتهديدات المتكرّرة، بل هي نتاج تجربة طويلة في المواجهة، حيث تصبح الحواس أدوات تحليل متقدِّمة لتفسير الديناميات المعقَّدة للصراع والنجاة. كل صوت وكل مشهد يتحوَّل إلى جزء من معادلة البقاء، لتتداخل التجربة الإنسانية مع الإدراك الحسّي في صياغة فهْم عميق للصراع، حيث الموت والحياة يُقرآن في تفاصيل لا يدركها سوى من عاشوا هذا الواقع.
بفضل ذكائهم المكاني المُكتَسب، يَتمتَّع الفلسطينيون بمعرفة عميقة بجغرافيا فلسطين وتضاريسها المعقَّدة. فقد اكتسبوا، منذ سِن مبكرة، مهارات استثنائية في التنقُّل بين المناطق العسكرية المحظورة والمربَّعات الأمنية المغلقة، واستطاعوا اكتشاف مسارات بديلة للوصول إلى وجهاتهم بمرونة وحنكة. أيضاً، أدى التعايش الطويل مع واقع الاحتلال العسكري إلى صَقْل مهاراتهم في التفكير الاستراتيجي، لا سيما في وضْع خطط طوارئ مبتكَرة لمواجهة أي فشَل محتمَل للخطة الأصلية. هذا الاستعداد الذهني أصبح سمة متأصّلة في سلوكهم اليومي، حيث يتعاملون مع المواقف الطارئة بروح تكتيكية مدروسة، تمكِّنهم من التكيُّف بسرعة مع التحوُّلات والمخاطر.
علاوة على ذلك، تُظهر العديد من الأُسَر الفلسطينية قدرة فطرية مدهشة على إدارة الأزمات، وهي مهارة تُنفِق المنظَّمات الربحية، وغير الربحية، والدول الغربية أموالاً هائلة لتطويرها. من أبرز الأمثلة على ذلك تكيُّف الفلسطينيين مع ندرة المياه الناجمة عن سرقة الاحتلال الإسرائيلي لمياه الفلسطينيين لرفد المستوطنات في الضفة. ردَّاً على ذلك، شَيَّدت العديد من الأُسَر آباراً لجمع مياه الأمطار واعتَمدت عليها كمصدر رئيسي لتلبية احتياجاتها اليومية. كما تحوَّلت الأراضي المحيطة بمنازلهم إلى قِطع زراعية تُزرع بالخضروات والفواكه وأشجار الزيتون، مما يعزِّز الاكتفاء الذاتي ويَضمن مقاومة ظروف الحصار وشحِّ الموارد. هذه التدابير ليست مجرَّد استراتيجيات بقاء فقط، بل هي تجسيد للقدرة على التكيُّف الذكي مع ظروف قاسية، حيث يحوِّل الفلسطينيون بيئتهم إلى مصدر دعْم واستدامة بموارد محدودة.
إضافة إلى ذلك، إذا دُمِّرت مدنهم، وقراهم، ومخيماتهم نتيجة القصف الإسرائيلي الهمجي، يَنهض الفلسطينيون من تحت الأنقاض لإعادة البناء، ويديرون هذه العملية بروح هادئة، وثبات، واتّزان. إن مهارتهم الفطرية في مواجهة الكوارث تفوق تلك التي يمتلكها السياسيون والاقتصاديون المخضرمون في الدول المتقدِّمة عند مواجهة الكوارث. بينما تحتاج هذه الدول إلى خِطط معقَّدة واستثمارات هائلة لإعادة التأهيل، يتمكّن الفلسطينيون، بتلقائية عجيبة، من تنظيم حياتهم وإعادة إعمار ما دُمِّر.
أيضاً، يلعب التضامن المجتمعي دوراً محورياً في صمودهم، حيث تنشأ لجان مساندة مجتمعية تُدار بسرِّية لتلبية احتياجات الأُسَر المحتاجة، سواء عبر تغطية نفقات التعليم أو توفير الرعاية الصحية، ما يعكس قوة الروابط الاجتماعية والتكافل بين أفراد المجتمع الفلسطيني.
يُظهر الفلسطينيون مرونة ملحوظة في إدارة الأزمات، التي لا تُعَدّ بالنسبة لهم أحداثاً طارئة. فمن وجهة نظرهم، ما يعتبره المجتمع الدولي "أزمة" هو في الحقيقة واقع يومي يعيشونه.
هذا العناء اليومي الذي يعانيه الفلسطينيون قد يؤدي إلى تكيُّفات معرفية وسلوكية فريدة تعزِّز قدراتهم على التركيز، والتحليل، والتخطيط لمواجهة التحدّيات المستمرّة، مما يحوِّلهم إلى "خبراء في النجاة" من الكوارث. يمْكن القول إن أدمغتهم قد تطوَّرت لتصبح متخصّصة في وْضع استراتيجيات النجاة في بيئات معقَّدة ومليئة بالتهديدات، الأمر الذي جعلهم بارعين في البقاء على قيد الحياة، لا يكلّون، لا يملّون، ولا ينتهون.
لقد تورَّط الاحتلال مع الفلسطينيين بشكل لم يكن في حسبانه؛ ففي اللحظة التي يَظن فيها أنه قد تخلَّص منهم نهائياً، يعاودون الظهور، أقوى وأكثر صلابة وقدرة على الاستمرار.
لذلك، إذا تجاوزنا التأثيرات الفسيولوجية والنفسية التي يخلّفها القلَق واضطراباته على الفلسطينيين في ظِلِّ الاحتلال العسكري، فإننا نَجد أن "القلَق"، في هذا الوجود غير المستقر، كإحساس مجرَّد وغير مريح، يعمل كدافع خفيٍّ للصمود والبقاء. هذا القلَق، بما يَحمله من توتُّر دائم، يُحفِّز اليقظة، ويُعزِّز القدرة على توقُّع الأخطار المحتملة والتعامل معها بفعالية. الاستجابات المدفوعة بالقلَق تؤدّي، في نهاية المطاف، إلى تحسين القدرة على تجنُّب التهديدات، والنجاة في ظروف استثنائية، والإدارة الفعّالة لواقع مليء بالأزمات، وكأن القلَق قد أصبح حليفاً غير مرئي للصمود والبقاء.
تشير دراسة علمية حديثة إلى أن القلَق، ضمن مستوياته المعتدلة، يمْكن أن يلعب دوراً إيجابياً في تحسين أداء الأفراد. وتؤكِّد العالمة النفسية إلين هندريكسن، صاحبة كتاب "How to Be Yourself"، أن القلَق المعتدل يمْكن أن يكون مفيداً، إذ يساعد الأفراد على توقُّع التحدّيات المحتمَلة، ويُحفِّز اليقظة، ويُسهم في تنظيم الأفكار والأفعال بشكل أكثر كفاءة. بعبارة أخرى، القلَق ليس دائماً عدوّاً للأداء، بل يمْكن أن يتحوَّل إلى حليف بوجوده بمستويات متوازنة.
على سبيل المثال، تشير الأبحاث إلى أن السائقين القلقين أقل عرضة للتورُّط في حوادث السيارات، لأنهم أكثر انتباهاً للأخطاء المحتملة أثناء القيادة، وأقدر على توقُّع غباء السائقين الآخرين وتجنُّبه. كذلك، يميل الأشخاص القلقون إلى اتخاذ تدابير وقائية ضد الأمراض، مما يجعلهم أقل عرضة للإصابة بالعدوى الفيروسية وغيرها من الأمراض. علاوة على ذلك، يُظهر القلَق دوره الإيجابي في تحقيق الكمال والدِّقة في تنفيذ المهام الروتينية والمسؤوليات الوظيفية. الأفراد الذين يشعرون بقدر من القلَق غالباً ما يقدِّمون أداءً عالياً نتيجة تركيزهم الشديد على التفاصيل وحرصهم على تجنُّب الأخطاء.
في المحصلة، يمْكن للقلق أن يكون محفِّزاً فعّالاً يدعم اليقظة ويزيد القدرة على تقييم المخاطر واتّخاذ القرارات الصحيحة. هذه الخصائص تجعل القلَق، في مستوياته المناسبة، أداة غير متوقَّعة لتعزيز الذكاء والتكيُّف مع البيئات المعقَّدة والمليئة بالتحدّيات، مما يساهم في تحسين الأداء والقدرة على البقاء.
مع أخْذ هذا السياق المركَّب بعين الاعتبار، يمْكن طَرْح تساؤل فلسفي مثير: هل يصبح الاحتلال العسكري الإسرائيلي، في محاولته لإخضاع الفلسطينيين والقضاء عليهم، محفِّزاً غير مباشر لتعزيز صمودهم وتطوير قدراتهم على التعامل معه؟ فبينما يسعى الاحتلال إلى إضعاف الفلسطينيين واجتثاثهم، قد يُسهم في تحسين مهاراتهم في البقاء والتكيُّف، مما يعزِّز قدرتهم على الصمود ويجعل مقاومتهم أكثر فعالية، وكأنهم يكتسبون صلابة جديدة من كل معاناة يتعرَّضون لها.
أَفصح مثال على هذه الجدلية، المستعارة من البيولوجيا التطوُّرية ومفهوم "البقاء للأصلح"، يَظهر بجلاء عندما تواجِه البكتيريا مضاداً حيوياً للمرة الأولى. في هذه الحالة، تؤدي المواجهة الأولى إلى القضاء على السلالات الأضعف، الأكثر حساسية للمضاد الحيوي، مما يفسح المجال لبقاء وتكاثُر السلالات الأقوى والأكثر مقاوَمة. ومع مرور الزمن، تَنتقل صفات المقاومة المكتسَبة إلى الأجيال اللاحقة من البكتيريا، مما يؤدي إلى نشوء سلالات أشد مقاومة بفِعل الطفرات الجينية وآليات الانتقاء الطبيعي. في هذه العملية، يصبح المضاد الحيوي نفسه، بشكل غير مقصود، محفِّزاً لتعزيز مقاومة البكتيريا، وهو ما يمثِّل ديناميكية معقَّدة حيث يؤدي التهديد الموجَّه ضد البكتيريا إلى تعزيز قدرتها على البقاء والتكيُّف مع الظروف الجديدة.
في ضوء ذلك، قد يتساءل المرء عمّا إذا كان نمط الحياة تحت الاحتلال العسكري يَمنَح الفلسطينيين ما يمْكن اعتباره "مزايا تطوُّرية"! لكن، ما قيمة هذه الامتيازات في نهاية المطاف؟ فلينتهِ هذا الاحتلال البغيض، ولتُستعاد الحرية، وسنتنازل، بكل سرور، عن أي ميزة تطوُّرية إلى الأبد.