كانت السيارات قليلة، بل نادراً ما نراها خلال العام، الشيء المعتاد هو باص أبو عصام، الذي كنا نتبعه من الخلف، ونحن أطفال، حين يأتي في رحلة الظهيرة والعصر كل يوم، لنمسك بسلمه من الخلف، السلم الذي كان يقود لسطح الباص، حيث كان يتم تحميل سلال العنب والتين والقطين على ظهره. كانت هذه السلال تنقل إنتاج القرية إلى المدينة إما كهدايا للأصدقاء والأقارب أو للبيع، أو بعضهم يأخذه معه إلى عمان، يقدمه لأقاربه المتعطشين لشيء من "ريحة البلد". كنا نمسك بالسلم ("نتعربش" عليه) بعد أن ينزل أهل بلدنا الذين "خطروا" في ذلك اليوم على المدينة (أي ذهبوا للمدينة). أحياناً يشاهدنا أبو عصام العبد عوض، رحمه الله بالمرآة ويتوقف خوفاً علينا. كم كان صبوراً ولطيفاً ولم يكن يترك أحداً من الخط يريد الركوب إلا ويحمله في الحافلة ... لا مجال لترك أحد، لأنه لن يجد وسيلة للوصول إلى رام الله في ذاك اليوم، كانت بلدنا محظوظة فهو أول ما يبدأ بتحميل الركاب يبدأ بها، لكننا كصغار والشباب والرجال كانوا يقفون من أجل النساء، كان يحمل أكثر من حمولته الرسمية ضعفين أو ثلاثة، فالواقفون في الممر داخل الحافلة أكثر من الجالسين على الكراسي، والكرسي المخصص لجلوس شخصين من الركاب يجلس عليه ثلاثة أو أربعة.
هدايا الريف لأهل المدينة كانت من العنب والتين والقطين والزبيب وزيت الزيتون والصبر، والبندورة البلدية والكوسا البلدي واللوبيا والبامية، البيض البلدي وصواني القش المصنوعة من قش القمح، والسلال المصنوعة من أغصان الزيتون البري وأغصان نبات "السَرِّيس"، وخبز الطابون/التنور المصنوع من القمح البلدي. وكل ذلك وأكثر كان من إنتاج أهل الريف. يومها كان الريف هو مصدر الإنتاج الزراعي بقسميه النباتي والحيواني والمنتوجات الجانبية، والمدينة تستقبل هذا الإنتاج الريفي. والقول "كان" لأنه لم يعد كذلك، فالريف الآن تحول إلى مُستهلِك للغذاء، لا منتجاً له، فأهل الريف الآن يعودون من المدينة، محملين بالخبز، والبيض، واللحوم، والخضار والفواكه والطحين المستورد، والعدس والفول، في تشويه كبير وعكس مخيف للأدوار حيث أصبحت المدينة، التي تستورد كل ما فيها، هي نفسها مصدر الغذاء للريف وهذا انقلاب للموازين وتشويهٌ للأدوار.
لم يحظَ الريف الفلسطيني بالاهتمام الاستراتيجي من أولي الأمر، للإبقاء على دوره الإنتاجي الحقيقي لرفد المدينة بحاجتها من الغذاء والمنتجات الريفية المتنوعة، وبدل ذلك كان التركيز على المدينة، وتطوير الحياة فيها، لتتحول إلى مراكز جذب لأهل الريف، الذين باتت نسبة كبيرة منهم تسكن المدينة، بحثاً عن فرص عمل أفضل، وترفيه أوسع وأشمل، وتعليم ومدارس أجود. فماذا كانت النتيجة؟ مدن مكتظة وريفٌ مفرغ من أهله ومجرد من دوره.
لقد كان من الأجدى أن يكون التركيز على تنمية الريف بتحسين التعليم فيه، ووسائل الرفاهية، ليبقى أهله فيه يمارسون دورهم الحقيقي في التنمية والإنتاج الغذائي وتنمية الزراعة. كان الأجدى أن تكون دوائر الزراعة وفروع مؤسسات التنمية في الريف، كان الأجدر أن يشتمل المنهاج المدرسي على التعليم الزراعي للطلاب في القرى، منهاج زراعي حقيقي، وليس "قفشات" زراعية في منهاج لا يسمن ولا يغني من جوع، منهاج يعمق حب الطفل للأرض والزراعة من بداية سنين عمره.
اليوم ونحن نشهد الجرائم الإسرائيلية بحقنا كفلسطينيين في الحركة والتنقل والحياة، وبوضع مئات البوابات والحواجز العسكرية، ندرك الأهمية الكبرى للريف وضرورة التركيز عليه في التنمية، وأهمها التنمية الزراعية، ضمن استراتيجية تركز على المحاصيل الأساسية المتنوعة والإنتاج الحيواني المتعدد، مع الاهتمام بجعل الريف جاذباً لأهله وللأجيال الصاعدة فيه، وجعل الزراعة أمراً ممتعاً للصغير والكبير.
لقد أثبتت التجربة العالمية أن تنمية الريف وتحسين ظروف الحياة فيه، أقل كلفة وأكثر جدوى من تضخيم المدن وتضخيم شوارعها، وزيادة ارتفاع بناياتها، وهذا ما دفع بلداً مثل الصين إلى التركيز على تنمية الريف، لترصد في سبيل ذلك ثمانية ترليون دولار أميركي لتنمية الريف، بعد أن أدركت أن الريف هو من أنقذها في التاريخ القريب ثلاث مرات من المجاعات، تماما كما يمكن للريف الفلسطيني أن يكون سلتنا الغذائية في كل الأوقات، سواءً في حالات الرخاء أم أوقات الأزمات.
فما الذي يحتاجه الريف الفلسطيني، كي يستعيد دوره الحقيقي؟
التعليم الجيد، الذي هو ربما أكثر ما يفتقر له الريف ويدفع بالكثيرين للانتقال للمدينة في سبيل حصول أبناءهم على التعليم الجيد في المدينة؛ حيث أن النقص في المدارس والاكتظاظ في الغرف الصفية في الريف، إضافة إلى نقص وضعف الكوادر التعليمية المتخصصة، وسوء في الملاعب والساحات ونقص أدوات الرياضة، وغياب عوامل الجذب للمدارس، يُوَلِّد التسرب المبكر للأطفال من مدارسهم، بل أنك تجد حالة جفاء وكُره بين الطفل والمدرسة.
البنية التحتية، حيث تعاني معظم المناطق الريفية من ضعف في البنى التحتية، من شوارع، وشبكات صرف صحي، وشبكات مياه وكهرباء، وسوء إدارة النفايات بسبب نقص الإمكانيات من جهة، ولكون المدن تمتص الموازنات ولديها القدرة الأكبر على تجنيد الأموال والفوز بمشاريع البنية التحتية، ولديها مصادر الدخل الذاتي الأكبر.
المرافق والخدمات، حيث الضعف الكبير في المرافق الصحية والدفاع المدني والإسعاف، ورياض الأطفال والحضانات والأندية والمراكز المجتمعية لكلا الجنسين، ما يؤثر كثيراً في حياة الإنسان ويدفعه للبحث عن مكان فيه خدمات ومرافق صحية أفضل ومتنوعة والوصول إليها أسهل.
الزراعة، وهي التي يجب أن تكون السمة الأساسية للريف والدور الحقيقي له وحجر الأساس فيه، لكنها تعاني من الكثير من المشاكل، أولها غياب الإرشاد الزراعي الفعال والحقيقي، ونقص التدريب المثمر، ما جعل الجيل الجديد بعيد كل البعد عن القدرة على الزراعة والإنتاج، بسبب ضعف الخبرة، حتى بات معظم أبناء وبنات الريف لا يعرفون كيف يزرعون. وليس هذا تضخيماً للمشكلة، ولكنها الحقيقة، التي ألامسها يومياً من خلال عملي في التدريب والإرشاد مع الناس في الزراعة. هناك جهل كبير يدفعك حد الشعور بالدهشة والألم، لِما وصل له الجيل الريفي الجديد. في هذا الإطار نحتاج أن نصل إلى قواعد أساسية في العمل، حيث أن فتاوى التدريب والإرشاد باتت في أيدي الكثيرين من الفاقدين للرؤى الزراعية التنموية، قواعد تقود إلى إحداث نقلة نوعية في العمل الزراعي في الريف للنهوض به.
المسألة الأخرى التي تواجه الزراعة ورغم الحديث الكثير عنها- مشكلة الخنازير البرية-، إلا أنه لا يوجد عمل حقيقي لمواجهة هذه المشكلة، رغم بساطة الحل. الخنازير البرية كانت السبب الأول للتوقف عن زراعة المحاصيل الحقلية، كالقمح والحمص، والشعير والعدس، .... والخضار البلدية والأعلاف.
كما أن الخنازير البرية سبب رئيسي لانجراف التربة، بسبب تخريبها للجدران الاستنادية الحجرية (السناسل)، ما يؤدي إلى تشكل السيول في الحقول وبالتالي انجراف كميات هائلة من التربة وما يرافق ذلك من انعكاسات على قدرة تخزين المياه في التربة وتغذية المياه الجوفية والينابيع. الحل البسيط الفعال والمتاح، هو السياج الجماعي لوحدات مساحة بين 100-10 دونم، ليتمكن أصحاب الأرض من زراعتها بالمحاصيل المختلفة، بما في ذلك أراضٍ تحوي أشجارً مثمرة، كالزيتون وغيره، حيث بين الأشجار توجد مساحات وفراغات يمكن زراعتها. تكلفة تسييج أرض زراعية جاهزة أو مزروعة بالأشجار، أقل بكثير من تكلفة تأهيل واستصلاح أراضي باستخدام الآليات الثقيلة. عشرات آلاف الدونمات يمكن أن تتحول وبسرعة لمناطق إنتاج غذائي متنوع فقط من خلال التسييج الجماعي، لحماية الأرض والمحاصيل من الخنازير البرية. إن تخصيص جزء من المشاريع الزراعية لحماية الأراضي الزراعية من الخنازير البرية، سيُمَكِّن الكثيرين ويدفعهم لزراعة المحاصيل الأساسية، وبخاصة الحبوب والأعلاف التي باتت تشكل أهم قضية يواجهها مربو الثروة الحيوانية، الذين يعانون من ارتفاع كبير في أسعار الأعلاف، ما يرفع أسعار اللحوم والحليب ومشتقاته، وهذا يزيد من صعوبة الحياة على الفئات الفقيرة ومتوسطة الدخل، التي لا تستطيع تذوق اللحوم إلا في مناسبات قليلة.
المشكلة الأخرى التي تواجهها الزراعة في الريف، هي الاستخدام الواسع لمبيدات الأعشاب في الحقول، ما يتسبب بمشاكل زراعية متعددة، أهمها تدهور التربة، ونقص المادة العضوية فيها، بسبب الاستعمال السنوي لمبيدات الحشائش، بينما يكمن الحل لهذه المسألة في اتباع أسلوب قص الأعشاب وتركها على سطح التربة، ما يزيد من قدرة التربة على الاحتفاظ بالماء ويرفع خصوبتها ويضاعف نسبة المادة العضوية فيها، فتتحسن إنتاجيتها بالتدريج.
المسألة الأخرى التي تواجه الزراعة في الريف هي نقص مياه الري، ما يتطلب إجراءات وخطوات متعددة لصيد مياه الأمطار في التربة أو في حواضن مائية مختلفة، لاستخدام المياه في ري تكميلي لمحاصيل بلدية، تحتاج القليل من المياه، مع خطوات تقلل من فقدان المياه من التربة، بطرق طبيعية.
تنمية الريف هي حل لكثير من المشاكل، الزراعية والاقتصادية والاجتماعية والبيئية، وهذا يتطلب خطوات فعالة من كل الجهات ذات العلاقة، رسمية كانت أم أهلية. وتنمية الريف الذي يشكل المساحة الأوسع لما تبقى لنا في فلسطين، ستقود للاهتمام بالأرض التي باتت فريسة سهلة للمستوطنين، بسبب إهمالها.