الأربعاء  12 شباط 2025
LOGO
اشترك في خدمة الواتساب

الاستعمار العاطفي: عندما يكون الفرح جريمة والحزن مراقبًا/ بقلم: ياسر مناع

2025-02-12 08:49:45 AM
الاستعمار العاطفي: عندما يكون الفرح جريمة والحزن مراقبًا/ بقلم: ياسر مناع
ياسر مناع

لا يُمارس الاستعمار هيمنته فقط عبر القوة العسكرية والاحتلال المباشر، بل يسعى إلى السيطرة على الإنسان من الداخل، في مشاعره وأحاسيسه وتعبيراته، في محاولةٍ لإعادة تشكيل وجدانه، بحيث يفقد القدرة على الغضب والفرح والحزن بمعزل عن قيود المحتل. فالهدف الاستعماري لم يكن يومًا مقتصرًا على الأرض وحدها، بل امتد ليشمل العقل والروح والمشاعر، عبر سياسات ممنهجة تهدف إلى جعل الفلسطيني فردًا فاقدًا للحافز العاطفي، خاضعًا لمنظومة القمع، غير قادرٍ على مواجهة الاحتلال ولا حتى بالتعبير عن مشاعره.

لقد وعى الاحتلال أن الغضب الجماعي هو المحرك الأول للمقاومة، وأن الفرح يمثل تجديدًا للروح الوطنية، وأن الحزن المشترك يعزز الروابط الاجتماعية ويُبقي القضية حية، فعمل على استهداف كل هذه المشاعر بالتجريم والملاحقة والتضييق. وهكذا بات الفلسطيني، تحت وطأة الاحتلال، يُحاسب على شعوره قبل فعله، ويُعاقب على أفراحه كما يُقمع في غضبه، بل حتى في لحظات الحداد، إذ يخضع لكل أشكال التقييد والسيطرة على مشاعره الإنسانية الأساسية.

لم يكن الاستعمار يومًا محايدًا تجاه مشاعر الغضب، فهو يدرك أن هذا الشعور هو ما يُلهب المقاومة، وهو الخطوة الأولى نحو الرفض والنهوض. لذا، عمل الاحتلال الإسرائيلي منذ سنواته الأولى على تصنيف الغضب الفلسطيني على أنه جريمة، تتجسد في القوانين التي تُدرج تحت مسمى "التحريض" كأحد أبرز التهم التي يمكن أن تؤدي إلى الاعتقال والمحاكمة في السنوات الأخيرة.

لم يعد الغضب مجرد شعور داخلي، بل بات "أفعالًا إجرامية" وفق التصنيفات الاحتلالية، تبدأ من المشاركة في مظاهرة، وتمر برفع العلم الفلسطيني أو ترديد الهتافات الوطنية، ولا تنتهي عند منشور غاضب على وسائل التواصل الاجتماعي. فالكثير من الفلسطينيين، بمن فيهم الأطفال، اعتقلوا لمجرد نشرهم عبارات تعكس غضبهم من الاحتلال على "فيسبوك" أو "إنستغرام"، وقد جرت إدانتهم بتهمة "التحريض"، وهي تهمة فضفاضة تُستخدم كذريعة لإسكات أي صوت فلسطيني يعبر عن رفضه لوجود المحتل.

الأمر لم يتوقف عند الأفراد، بل شمل المؤسسات الإعلامية التي تعتبر منصات تعكس الغضب الفلسطيني وتوثيق جرائم الإحتلال، حيث أغلق الاحتلال العديد من القنوات والمكاتب الصحفية بحجة "التحريض الإعلامي"، كما فرض رقابة مشددة على المحتوى الفلسطيني على الإنترنت، وأجبر منصات التواصل الاجتماعي على حذف آلاف المنشورات والحسابات التي تعكس الغضب الفلسطيني.

إذا كان الاحتلال يسعى إلى قمع الغضب، فإنه يعمل أيضًا على خنق الفرح الفلسطيني، خاصة في المحطات التي يراها تهديدًا لروايته، وأبرزها تحرير الأسرى في صفقات التبادل. ففي كل مرة يُحرَّر فيها أسرى فلسطينيون، يُنفذ الاحتلال إجراءات قمعية صارمة لمنع أي احتفال بهذه اللحظات التي تعني الكثير للفلسطينيين، لا سيما بعد حرب الإبادة.

ويبدأ القمع حتى قبل خروج الأسير، عبر تهديد عائلته بعدم إقامة أي مظاهر احتفالية، ثم يتبعه إغلاق الطرق المؤدية إلى منازل الأسرى المحررين لمنع التجمهر الشعبي، وأحيانًا تصل الإجراءات إلى اقتحام البيوت وتخريبها لمنع أي استقبال جماهيري للأسير. كما شهدت حالات كثيرة اعتقال أقارب وأصدقاء الأسرى لمجرد تنظيمهم استقبالًا لهم أو توزيعهم الحلوى في الشوارع.

لماذا يخشى الاحتلال الفرح؟ لأن لحظات الفرح تعزز الروح الجماعية للمجتمع الفلسطيني، وتشكل دفعة معنوية تُذكّر الفلسطينيين بأن المقاومة تُثمر، وأن الأسرى الذين أمضوا سنوات خلف القضبان لم يُنسوا، بل عادوا أبطالًا مكرمين. إنها لحظات تهدم جزءًا من الجدران النفسية التي يحاول الاحتلال بناءها، ولهذا يُحاربها بكل السبل.

إذا كانت فرحة الفلسطيني مقيدة، فإن حزنه أيضًا ليس استثناءً، فجنازات الشهداء باتت أشبه بساحات مواجهة، حيث يمنع الاحتلال رفع الأعلام الفلسطينية، ويعرقل وصول المشيعين، وأحيانًا يحتجز جثامين الشهداء لشهور أو حتى سنوات، في محاولة لطمس أثر الحزن الجماعي، وإضعاف قوة هذه اللحظات التي غالبًا ما تتحول إلى مظاهرات غضب في وجه الاحتلال.

يُدرك الاستعمار أن الحزن الفلسطيني ليس مجرد مشاعر فردية، بل هو حالة وطنية جامعة تزيد من التمسك بالهوية والنضال، ولهذا يحاول تطويعه عبر التهديدات والقيود والممارسات القمعية. فقد شهدت عدة مدن فلسطينية هجمات إسرائيلية على جنازات شهداء، حيث اعتُدي على المشيعين بالرصاص وقنابل الغاز، وكأن الاحتلال يريد حتى أن تكون لحظة الفقدان بلا دموع، بلا مشاعر، وبلا أثر يُذكر.

كل هذه السياسات تندرج ضمن مشروع استعماري أشمل يسعى إلى خلق "الإنسان الخاضع"، وهو الإنسان الذي يعيش بلا مشاعر ثورية، بلا ذاكرة وطنية، بلا طموح للتحرر. يريد الاحتلال أن يُبرمج الفلسطيني ليخاف من غضبه، ليقمع فرحته بنفسه، وليعتبر حزنه شأنًا شخصيًا لا يحق له التعبير عنه بشكل جماعي.

لكن المشاعر ليست مجرد ردود فعل لحظية، بل هي المحرك الأساسي لكل فعل مقاوم. ومن هنا، فإن كفاح الفلسطينيين لا يقتصر على مقاومة الاحتلال العسكري، بل يشمل أيضًا مقاومة هذا الاستعمار العاطفي الذي يهدف إلى تكلّس المشاعر، وقتل الروح النابضة التي تدفعهم للاستمرار. فالمشاعر في جوهرها هي ساحة معركة أخرى، وهي معركة لا تقل أهمية عن النضال في الميدان، لأن بقاء المشاعر حية يعني بقاء القضية حية، حتى التحرر الكامل.