الأربعاء  19 شباط 2025
LOGO
اشترك في خدمة الواتساب

تلك الأيّام في بيروت/ بقلم: نبيل عمرو

2025-02-15 07:29:13 PM
تلك الأيّام في بيروت/ بقلم: نبيل عمرو

 

عند العاشرة صباحاً، دخلت قصر بعبدا لأوّل مرّة في حياتي، لأسلّم الرئيس إميل لحّود رسالة من ياسر عرفات، وكان معي سفيرنا في الأردن السيّد عطا خيري.

كان تحدّد لنا موعد للقاء الرئيس رفيق الحريري، في منزله، وكانت المرّة الأولى التي ألتقيه فيها، مع أنّ كثيرين من الفلسطينيين عرفوه عن قرب.

كان عرفات قد طلب منّي أن أبلغه شفوياً ما يريد منه.

في صالون فسيح مليء بالمقاعد، كما لو أنّه أعدّ لاستقبال عددٍ كبير من زوّاره، استأذننا بالردّ على هاتف مفاجئ مُرّر إليه. عرفنا أنه يتحدّث عن مشروع ما.

أبلغته بما طلب منه عرفات، وما زلت أذكر ردّه الفوريّ. كان يستخدم مفردة “يا خوي”، وهي مفردة فلسطينية يستخدمها أنسباؤه في محادثاتهم الودّية بعضهم مع بعض، ومع الأصدقاء، وأسهب في عرض نصائحه الكثيرة للرئيس عرفات.

كانت نصائحه تنمّ عن دراية تفصيلية بكلّ ما يجري في فلسطين.

في ليلة فائتة كنت تناولت العشاء مع الصديق سمير قصير في الأشرفية، التي كانت ممنوعة عنّي بفعل الحرب التي عشت كلّ فصولها الشرسة داخل المربّع الضيّق الذي كان يسمّى جمهورية عرفات في الفاكهاني، وقبلها كان سمير قد اصطحبني في جولة في “السوليدير” الذي بُني أو رمّم على الركام، وبدا لي كما لو أنّ إزالة آثار الحرب التي تولّاها رفيق الحريري أبقت على آثار صليات البنادق على جدران ما بقي من بيوت نجت من الدمار الكامل.

بعدما فرغ الرئيس الحريري من نصائحه لعرفات، استأذنته للحديث عن تلك الأمسية الجميلة التي قضيتها بصحبة صديقي سمير قصير. كنت أعرف المنطقة قبل الحرب وأثناءها، غير أنّ ما رأيته في زمن رفيق كان بمنزلة انبعاث لحياة جديدة أتى بها رجل الأعمال الناجح ليكمل ما بقي له من عمر في ترميم ما تصدّع من لبنان وإعادة بنائه من جديد.

في ذلك اليوم يوم الحبّ يوم الورود الحمر، تمزّق جسد اللبناني العربي النبيل وتضرّجت بيروت كلّها بدمه الأحمر النقيّ

معجزة العصر

كنت أصف له بحماسة شديدة انطباعاتي عن إنجازه الذي يستحقّ التباهي، وكنت أراقب انفعالاته الفرحة التي حوّلته من رئيس ورشة إعمار عبقريّة لبلد لا يليق به الدمار والموت، إلى إنسان بسيط يفيض وجهه بسعادة من يرى غرسه وقد أورق وأزهر وطرح ثماراً.

مشى معنا ليوصلنا إلى المصعد، فكانت مصادفة جميلة حين انفرج الباب عن السيّدة نازك شريكة حياته، فسلّمنا عليها وودّعنا بكلمته المفضّلة حين يخاطب فلسطينيين “يا خوي”.

في تلك الزيارة كنت أحمل رسالة إلى الرئيس السوري، وكنت وزميلي ننتظر موعداً لتسليمها في دمشق. لم يتحدّد الموعد، وأبلغنا صديق فلسطيني بأنّ ممثّلنا هناك تقدّم بطلب ولم يردّوا عليه، لكنّه قال إنّه على الأرجح لن يردّوا، فهم لا يحبّون أن يكون خطّ السير يبدأ ببيروت ثمّ دمشق.

وضعنا الرسالة لدى موظّف الاستقبال في الفندق، وأبلغنا زملاءنا الفلسطينيين العاملين في بيروت بأن يبلغوا أشقّاءنا السوريين بما فعلنا. دارت أيّام وشهور حين كنت أشارك في فعّالية إعلامية في عمّان. كنت جالساً إلى جوار رئيس الوزراء الأردني الأسبق السيّد طاهر المصري، أطال الله عمره، وكنّا نتحدّث عن رفيق الحريري، وكان إلى جوارنا عضو مشارك من الوفد اللبناني. كان يوم الحبّ الذي يحتفل به العالم كلّه، وتملأ الكون الورود الحمر، التي يتبادلها المحبّون بشغف وغالباً بحسرة على زمن الحبّ الذي يتقلّص ويكاد يزول. في ذلك اليوم يوم الحبّ يوم الورود الحمر، تمزّق جسد اللبناني العربي النبيل وتضرّجت بيروت كلّها بدمه الأحمر النقيّ، وتوقّف قلب لبنان عن الخفقان، وكأنّ الحياة تغادره. غير أنّ لبنان يصرّ على أن يظلّ معجزة العصر، وأن يمارس وفاءً لرفيق الحريري على طريقتهما معاً. وها هو بعد عشرين سنة من ذلك اليوم يبعث لبنان المتجدّد برسالة للشهيد رفيق الحريري يقول فيها: كأنّك لم تمُت.