الاكتفاء بالدرجة صفر من التحليل، والركون إلى حالة من الإنكار واختزال التعامل مع "خطّة ترامب" باعتبارها ضربا من الجنون والهلوسة المرضية لن يفيد شيئا لا في التحليل ولا في محاولة فهم ما وراء هذه الخطّة وما تخفيه من تفاهمات مع العدو الصهيوني وبعض العواصم العربيّة وبعض الداخل والخارج الفلسطيني. المطلوب بنظري التعاطي مع كل ما أعلنه "ترامب" بجدية كافية وتفكيك الاستراتيجية التي يتبعها للوصول إلى أهدافه التي قد تكون "خطته المعلنة" المستهجنة عربيا ودوليا وإلحاحه الاتصالي عليها لأكثر من أسبوعين مجرد سحابة من الغبار للتمويه على "الخطة الحقيقية".
من خلاله كتابه "فن الصفقة" الذي أصدره سنة 1987 والذي حصد أكبر المبيعات في أمريكا حاولت تتبع مفاهيمه وأسلوبه وأدواته في إدارة الصفقات الناجحة والمراحل التي يعتمدها للوصول إلى أهدافه للفوز بـ"الصفقة" وتطبيقها على مقاربته للقضية الفلسطينيّة وخاصة الخطّة الحقيقيّة التي يخفيها وراء مناوراته لغزّة.
أهم المفاهيم التي يركّز عليها ترامب في كتابه ما يسميه باستراتيجيّة "التضخيم الصادق" عرض صفقته/سلعته باعتماد التضخيم المبالغ فيه مع الإيهام وتوهّم الصدق. ولعل الملاحظ أنه ومنذ إعلانه خطّة "التهجير والتملّك والتعمير" سعى ترامب في كل تصريحاته أن يضخّم الخطّة/الصفقة إلى أعلى مستوياتها بما لم يتوقّعه حتّى العدوّ الصهيوني (على الأقل حسب المعلن عنه) وهو الأمر الذي نجح من خلاله في ما يسميه "جلب الاهتمام لخطته" وتحقيق "الزخم الإعلامي" لها والذي تكفلت به ماكينة دعايته البديلة على شبكات ومنصات التواصل الاجتماعي إلى جانب وسائل الإعلام ووكالات الأنباء الأمريكيّة والدوليّة، حتى باتت أخبار "الخطّة/الصفقة" الترامبية تغطي على كل الأخبار المتعلقة بما يحدث في غزّة بما في ذاك "صفقة التبادل" و"حجم الدمار المكتشف بعد عودة المهجّرين إلى الشمال" و"الوضعية الإنسانية للعائدين في ظل الخراب والعراء دون مسكن ومأكل ومشرب ورعاية طبية وتطيل دخول الإمدادات.
بعد هذا النجاح في الرفع من قيمة الخطّة/الصفقة انتقل ترامب إلى مرحلة ما يسميه "الإصرار والصمود" و"المثابرة" ووضع "الخصوم" في الزاوية (المقاومة والبلدان العربية) وذلك بالتأكيد على أن "خطّة/التهجير والتملك والتعمير" أمر حتمي وأن مصر والأردن والسعودية خاصة وبقية الدول العربية ستقبل في الأخير بها رغم كلّ ما تبديه من رفض (خلق حالة شكّ وارتباك وصلت أوجها مع لقاء الملك الأردني).
في اللحظة التي تبدو فيها المواجهة شبه حتميّة ويشتد الخناق على "الخصم/الدول العربيّة" والصفقة "على طريق مسدود" يبدي صاحب "الخطّة/الصفقة" ترامب بعض المرونة الضرورية تطبيقا لقاعدة "لا يمكن خداع الناس لفترة طويلة بالإثارة والمبالغة لكن من الضروري تسليم البضاعة". ويفسح المجال لما يسمى "الخيارات البديلة" اعتمادا على تكتيك "لا يمكن الاعتماد على خطة واحدة فقط للتفاوض" بل "يجب أن تكون لديك دائما خطط احتياطيّة إذا لم تمض الأمور كما هو مخطّط لها".
ما هي الخطط البديلة عن "التهجير والتملّك والتعمير"؟ بكل بساطة العودة إلى الخطّة الأصليّة والمتمثلة في "مخطط الكيان الصهيوني" والذي لم ينجح في تحقيقه طيلة العدوان، لكن هذه المرّة سيكون بموافقة ومباركة الخصم/الدول عربيّة المحشورة في الزاوية والتي لا تملك الكثير من الخيارات (للأسف). وسيتحوّل مطلب نزع سلاح المقاومة وترحيل قياداتها إلى المهاجر وفي أحسن الحالات استبعادهم من إدارة القطاع وتعويضهم بإدارة منزوعة السلاح والقرار الوطني السيادي مقابل السماح لبقية الفلسطينيين بالبقاء في أرضهم (وكأنها منّة من ترامب والكيان) وإعادة الإعمار، بمثابة "الحلّ الوسط" الواقعي، وسيبدو الأمر وكأنه إنجاز عربي/دولي وتجنّب للأسوأ الذي طرحه ترامب في خطّته.
هكذا ينجح ترامب بتطبيقه أسلوب "فنّ الصفقة" على غزّة في أن يحقّق بقوّة الخداع السياسي و"استراتيجيا التضخيم" والمبالغة والإيهام والمغالطة ما لم يحققه العدوّ بالقوة العسكرية وبالتدمير الشامل طيلة عدوانه على القطاع.
للأسف بعض ما تسرّب حول مقترحات الخطّة العربيّة البديلة عن "خطّة ترامب" تحت شعار "قمّة لاءات التهجير والتوطين" والتي ستعرض في قمّة 27 فبراير الطارئة جدا!!! تؤكد هذه الفرضيّة بقوّة، والتي مفادها إهداء العدوّ نصرا سياسيا لم ينله بالتدمير والقتل والتجويع والتشريد. إهداؤه غزّة منزوعة السلاح وربّما منزوعة المقاومة على شاكلة الضفّة وتحت إدارة مدنية منزوعة الإرادة السياسيّة والسيادة الوطنيّة"، والأسوأ من ذلك إظهار الأمر وكأنه انتصار حققته الأنظمة العربيّة وتصدّ بطولي لخطّة التهجير الترامبيّة.
كلّ ما أتمناه أن تكذّب الوقائع حدسي وأن يكون تحليلي خاطئا رغم أن النموذجين السوري الناجز (دولة منزوعة السلاح) واللبناني بصدد التنزيل (محاصرة حزب الله والمقاومة) لا يتركان مجالا للشكّ في أننا نتجه إلى سيناريو تفكيك المقاومة في غزّة، بل لعلّ إشارات ساكنة الدوحة وأسطنبول تكاد تنطق بذلك.