الجمعة  28 شباط 2025
LOGO
اشترك في خدمة الواتساب

الضفة الغربية في مرحلة ما بعد أوسلو: اتجاهات ناشئة وسيناريوهات محتملة| بقلم: ياسر مناع

2025-02-28 08:23:43 AM
الضفة الغربية في مرحلة ما بعد أوسلو: اتجاهات ناشئة وسيناريوهات محتملة| بقلم: ياسر مناع
ياسر مناع

يبدو أن أخبار قطاع غزة وصفقات تبادل الأسرى وتصريحات الرئيس الأمريكي دونالد ترامب قد استحوذت على عناوين الأخبار ووسائل الإعلام، وحجبت قليلًا عن ما يجري في الضفة الغربية من مشهد متباين الأبعاد الذي يستدعي قراءة معمقة. ففي حين يحاول بعض المحللين تفسير هذه التصريحات والصفقات على أنها انكشافات للمخططات السياسات الاستعمارية، يبقى المشهد الحقيقي في الضفة الغربية، ولا سيما في مدينتي جنين وطولكرم، على درجة عالية من التعقيد. وفقًا للمعطيات المتوفرة من وقائع الضفة الغربية، يمكن تمييز ثلاثة نماذج رئيسية تبرز التباين الواضح في إدارة الأوضاع الأمنية والاجتماعية والاقتصادية فيها.

في شمال الضفة الغربية، وبخاصة في المخيمات التي تشهد عملًا عسكريًا متواصلًا منذ قرابة الشهر، يظهر المشهد الفلسطيني على أنه يخضع لعملية تهجير داخلية منظمة. هنا، تتزامن العملية العسكرية الإسرائيلية مع حملة منهجية لتهجير السكان من المخيمات، حيث يستهدف هدم البيوت ومراكز السكن التي أصبحت تمثل رمزًا للمقاومة. ومن المؤكد أن هذا التهجير له أبعاد اقتصادية واجتماعية؛ إذ في ظل الظروف المعيشية المتردية والأزمات والأعباء الاقتصادية، يصبح إعادة بناء منزل مهدم مهمة شبه مستحيلة، ما يدفع الأسر إلى الانتقال إلى المدن أو القرى المجاورة مع الاحتفاظ برغبتهم في العودة إلى المخيم في المستقبل.

هذا التوجه لا يقتصر على الجانب الإنساني فحسب، بل يحمل أيضًا أبعادًا استراتيجية، إذ يسعى الجانب الإسرائيلي إلى “محاربة المخيم” ليس فقط كمكان جغرافي وإنما كرمز سياسي واجتماعي. إذ تُرى جهود تحويل المخيمات إلى أحياء مدنية ضمن صلاحيات البلديات كخطوة لإنهاء عمل وكالة غوث وتشغيل اللاجئين (الأونروا) وتفكيك البنى التحتية للمقاومة الشعبية. هذا الهدف يتطلب من جيش الاحتلال البقاء داخل المخيمات لأطول فترة ممكنة.

على النقيض من المناطق الشمالية، تُظهر المدن المركزية في الضفة الغربية، مثل رام الله، نمطًا مختلفًا يتجسد في حياة تبدو طبيعية رغم ظروف الحصار. في هذه المدن، تستمر الأنشطة الاقتصادية والاجتماعية بمستوى معين من الرفاهية، ويظهر التعايش وكأن الحياة تدور وفق نظام مغاير لما يحدث في المناطق الأخرى. فمع أن هذه المدن تخضع لاقتحامات بين الفينة والأخرى، إلا أن السياسات الإسرائيلية تتيح للسلطة الفلسطينية الاستمرار في عملها.

هذا النمط يشير إلى استراتيجية إسرائيلية تعتمد على خلق فجوة واضحة بين مختلف مناطق الضفة الغربية؛ ففي حين يُستهدف الشمال بعمليات تهجير واضطهاد ممنهج، يتم في الوسط السماح بوجود “مدن نموذجية” تخضع لظروف متفاوتة تُسهم في إبراز التناقض داخل المشهد الفلسطيني. وهنا يتضح أن التفاوت في تطبيق السياسات الإسرائيلية قد يُستخدم كأداة لإعادة رسم الحدود المجتمعية والسياسية داخل الأراضي المحتلة، مما يعكس محاولات لتقسيم المشهد الفلسطيني بطرق تخدم أهدافًا استراتيجية أوسع.

أما في جنوب الضفة الغربية، فتبرز مدينة الخليل كنموذج يدمج بين الازدهار الاقتصادي والوجود العسكري الإسرائيلي في قلب المدينة. إن الخليل، التي تعد من أكثر المدن كثافة من حيث السكان، تشهد حاليًا نشاطًا اقتصاديًا أعلى مستوى مقارنة بالمحافظات الأخرى.

ولأن الخليل تعتبر بمثابة مركز جذب اقتصادي ثمة محاولات تهدف إلى نسج علاقات اقتصادية غير رسمية مع بعض الجهات الإسرائيلية. رغم ذلك، فإن هذا الازدهار لا يخلو من تناقضات؛ إذ يتعارض وجود الجيش في قلب المدينة مع التطلعات الاقتصادية، ما يجعل الخليل رمزًا معقدًا يجمع بين ملامح الاحتلال والانتعاش الاقتصادي في آن واحد.

ومن بين أكثر المشاهد اللافتة في المشهد الفلسطيني ما يُرى في مدينة جنين وطولكرم. ففي جنين، ظهر مشهد غير مألوف حيث يُلاحظ ظهور عناصر الشرطة الفلسطينية بلباسها العسكري إلى جانب مركبات عسكرية إسرائيلية تقف على بُعد أمتار قليلة من بعضهما البعض. هذه الوقائع تشير إلى تجاوز واضح لبروتوكولات أوسلو الأمنية التي نصت على عدم تواجد عناصر السلطة الفلسطينية في المناطق المصنفة أ حال اقتحام الجيش الإسرائيلي. أي أن هناك محاولة لإعادة تشكيل المشهد الأمني والسياسي على أرض الواقع، لتخطي المفاوضات والاتفاقيات السابقة وخلق واقع جديد يُعاد فيه تعريف السلطة الفلسطينية وفقًا لمقتضيات الموقف الإسرائيلي. وهذا مشابه من حيث العناوين للخطوات التي جرت في عام 2004 حينما حاولت إسرائيل إيجاد قيادة بديلة للسلطة الفلسطينية.

وفي مدينة طولكرم، بدأت الحياة تعود تدريجيًا إلى خارج المخيمات المستهدفة، مما يشير إلى سياسة ربما تهدف إلى تفتيت النسيج الاجتماعي وإعادة توزيع السكان بما يتماشى مع أهداف السيطرة الإسرائيلية. سلوك الجيش الإسرائيلي في المدينة، يظهر أن الموقف لا يقتصر على الجانب العسكري فقط، بل يمتد إلى إعادة رسم الخرائط الاجتماعية والسياسية في المناطق التي طالما كانت مسرحًا للمواجهة الحالية.

إن تحليل هذه المعطيات يدعو إلى استنتاج أن ما يحدث في الضفة الغربية ليس إلا جزءًا من استراتيجية أوسع تهدف إلى إعادة تعريف السلطة الفلسطينية والمشهد السياسي في الأراضي المحتلة. فبعد سنوات من سياسات الاحتلال التي استندت إلى اتفاقيات أوسلو، باتت إسرائيل تسعى اليوم إلى تجاوز تلك الاتفاقيات وفرض واقع جديد يتماشى مع مصالحها الاستراتيجية. هذا الواقع الجديد يشمل خطوات ممنهجة لإضعاف الهيكل الإداري والسياسي للسلطة الفلسطينية والضغط عليها بكل الطرق - مع أنها مدركة لذلك، ولكنها تحاول تفادي ذلك من خلال بعض القرارات غير الصائبة بل تزيد الشرخ بينها وبين المجتمع الفلسطيني مثل قضية قطع رواتب الأسرى والشهداء والجرحى- عبر استخدام مقاييس اقتصادية واجتماعية وأمنية متباينة بين مناطق الضفة.

ختامًا، تُظهر المعطيات تنوع المشهد في الضفة الغربية بين شمال يشهد تهجيرًا داخليًا منظمًا، تسعى إسرائيل من خلال هذه السياسات إلى إعادة تعريف السلطة الفلسطينية بشكل أكثر دقة بما يخدم تطلعاتها، وتغيير معالم المشهد السياسي والاجتماعي بما يخدم مصالحها الاستراتيجية. يبقى التحدي الأكبر أمام الفلسطينيين في كيفية مواجهة هذه السياسات ضمن رؤية وطنية تشاركية تحت برنامج سياسي واضح الوسائل والأدوات والبدائل.