كتب: ريتشارد فولك
منذ أن بدأت العملية العسكرية الإسرائيلية الكبيرة الأخيرة ضد غزة في الثامن من يوليو طرحت أكثر من مرة فكرة أن إسرائيل مذنبة بارتكاب جرائم حرب، وأنه يتوجب على فلسطين أن تبذل قصارى جهدها لدى المحكمة الجنائية الدولية لحملها على النظر في الأمر نيابة عنها.
هناك من الأدلة الدامغة ما يدعم المزاعم الفلسطينية الأساسية: فإسرائيل مذنبة إما بالعدوان، وذلك انتهاك لميثاق الأمم المتحدة، أو بالانتهاك الصارخ لالتزاماتها كقوة محتلة بموجب معاهدة جنيف بحماية السكان المدنيين للشعب الواقع تحت الاحتلال. يبدو أن إسرائيل مذنبة باستخدام القوة المفرطة أو غير المتكافئة ضد مجتمع لا يتمتع بالحماية في قطاع غزة، كما أن إسرائيل، وضمن سلسلة من الجنح الأخرى، تبدو مذنبة بارتكاب جرائم ضد الإنسانية على شكل فرض نظام تفرقة عنصرية في الضفة الغربية ومن خلال نقل جمع من الناس إلى منطقة محتلة كما يتجلى من مضيها في مشروع الاستيطان الهائل.
أخذاً بعين الاعتبار هذه الخلفية من إجرام إسرائيلي جلي، يبدو لي أن السلطة الفلسطينية لا تحتاج إلى التفكير ملياً حتى تطلب مساعدة المحكمة الجنائية الدولية في نضالها لكسب الرأي العام العالمي إلى جانب هذا النضال. ليس لدى الفلسطينيين قدرات عسكرية أو دبلوماسية تمكنهم من معارضة إسرائيل، ولا أمل لهم إلا في القانون والتضامن الدولي لكي يتمكنوا في نهاية المطاف من الحصول على حقوقهم، وخاصة حق تقرير المصير.
مثل هذا المنطق يعززه الخطاب الذي وجهه يوم الثامن من مايو 17 منظمة غير حكومية معتبرة تنشط في مجال حقوق الإنسان إلى الرئيس محمود عباس يحثون فلسطين فيه على أن تصبح عضواً في المحكمة الجنائية الدولية وتعمل على وضع حد لإفلات إسرائيل من الملاحقة القانونية. ليست هذه لفتة واهمة حلموا بها على هامش السياسة اللامسؤولة في المجتمع، بل بعض الموقعين على الرسالة يمثلون كبار المنظمات الحقوقية في العالم مثل هيومان رايتس ووتش والعفو الدولية والحق والمفوضية الدولية للحقوقيين. إنها مؤسسات محترمة معروفة بحكمتها وحصافتها.
مما يضيف إلى مصداقية فكرة دراسة مسألة الانضمام إلى المحكمة الجنائية الدولية تلك المعارضة الشديدة من قبل إسرائيل والولايات المتحدة الأمريكية لها وتهديدهما للسلطة الفلسطينية بعواقب وخيمة إذا ما حاولت الانضمام إلى المحكمة الجنائية الدولية ناهيك عن أن تنشد العدالة لديها من خلال حملها على النظر في هذه القضية. وها هي السفيرة الأمريكية إلى الأمم المتحدة، سامانثا باور، وهي نفسها كانت لفترة طويلة ناشطة في مجال حقوق الإنسان، تكشف عن انزعاج واشنطن حينما اعترفت بأن التوجه إلى المحكمة الجنائية الدولية يمكن أن يهدد بجد وبشكل خطير دولة إسرائيل.
لست متأكداً ما إذا كانت السيدة باويل ترغب في التعايش مع فكرة أنه نظراً لأن إسرائيل عرضة للمساءلة القانونية فإنه يتوجب الحفاظ على قدرتها على الإفلات من هذه المساءلة أياً كان الإحراج الذي يمكن أن يسببه ذلك. فرنسا وألمانيا كانت أكثر حذراً إذ قالتا بأن اللجوء من قبل فلسطين إلى المحكمة الجنائية الدولية ينبغي أن يتجنب لأنه سيعطل مفاوضات الوضع النهائي، كما لو أنه كانت هناك أي قيمة لتلك المفاوضات، بل مجرد سراب.
لو كنا في عالم أفضل، لما ترددت السلطة الفلسطينية في الاستعانة بسلطة المحكمة الجنائية الدولية، ولكن في عالمنا الذي نعيش فيه اتخاذ مثل هذا القرار ليس بالأمر البسيط. فبادئ ذي بدء هناك مسألة الانضمام إلى المحكمة، حيث أن العضوية مقصورة على الدول. في عام 2009 حاولت السلطة الفلسطينية الانضمام إلى إعلان روما، وهو المعاهدة التي تحكم عمل المحكمة الجنائية الدولية، إلا أنها رفضت من قبل المدعي العام الذي أحال الموضوع إلي مجلس الأمن، مدعياً بعدم توفر الصلاحيات لديه لحدد ما إذا كانت السلطة الفلسطينية تمثل “دولة”.
على إثر ذلك، وفي التاسع والعشرين من نوفمبر، قررت الجمعية العامة للأمم المتحدة بالإجماع الاعتراف بفلسطين “دولة مراقب غير عضو”. أكد لويس مورينو أوكامبو، الذي كان يعمل في المحكمة الجنائية الدولية، وهو الآن مدعي عام سابق، بأن فلسطين حسب رأيه يمكن، بالنظر إلى إجراء الجمعية العامة للأمم المتحدة، أن تتأهل لتكون دولة لها الحق في الانضمام إلى عضوية المحكمة الجنائية الدولية. في العادة تقتصر صلاحيات المحكمة الجنائية الدولية على الجرائم التي تكون قد ارتكبت بعد انضمام الدولة المعنية إلى عضويتها. إلا أن ثمة مادة تتيح إمكانية إصدار إعلان بقبول صلاحية البت في جرائم ارتكبت في أي تاريخ داخل أراضي الدولة المعنية طالما أن هذه الجرائم وقعت بعد تأسيس المحكمة الجنائية الدولية، والتي تأسست في عام 2002.
هل ذلك يكفي؟ لم تكن إسرائيل في يوم من الأيام من الموقعين على إعلان روما الذي أسس المحكمة الجنائية الدولية، ومن المؤكد أنها سترفض التعاون مع مدعي عام المحكمة إذا ما سعى إلى التحقيق في تهم بارتكاب جرائم الحرب بنية محاكمة المسؤولين عن ذلك. قد يبدو اللجوء إلى المحكمة الجنائية الدولية من هذه الناحية غير ذي جدوى حتى لو صدرت عن المحكمة مذكرات قبض، كما حدث في حالة القذافي وابنه في عام 2011، فلا توجد ثمة فرصة في أن تسلم إسرائيل من يتهم من قادتها السياسيين أو العسكريين للمحكمة، ودون تواجد المتهمين في قاعة المحكمة في لاهاي فإنه لن يتسنى المضي قدماً في أي مداولات.
وهذا يسلط الضوء على مشكلة أساسية تتعلق بإنفاذ القانون الجنائي الدولي. يتسنى تطبيق القانون ضد المهزومين في الحروب أو ضد أولئك الذين يرتكبون جرائم في دول النصف الجنوبي من الكرة الأرضية. وقد سرى ذلك فعلاً منذ أول جهد كبير بذل بعد الحرب العالمية الثانية في نوريمبيرغ وطوكيو، حيث حمل القادة الألمان واليابانيون الذين كانوا مايزالون على قيد الحياة المسؤولية عن جرائمهم بينما لم يؤاخذ المنتصرون رغم مسؤوليتهم عن القصف الممنهج والمنتظم للسكان المدنيين من خلال القصف الاستراتيجي وإلقاء القنابل الذرية على هيروشيما وناغازاكي.
لسوء الحظ، حتى هذا الوقت، لم تتمكن المحكمة الجنائية الدولية من التخلص من هذا الإرث الذي يطبق عدالة المنتصر، مما أساء إلى سمعتها ونال من صدقيتها. كل القضايا التي تعاملت معها المحكمة الجنائية الدولية حتى الآن كان المتهمون فيها من بلدان ما تحت صحراء أفريقيا.
ثم جاء رفض المحكمة الجنائية الدولية التحقيق في مزاعم بوقوع جرائم حرب أثناء حرب العراق عام 2003، وكان ذلك تأكيداً مأساوياً لحقيقة أن الدول الكبرى، وخاصة الولايات المتحدة الأمريكية، تمتلك حق فيتو جيوسياسي تقرر بموجبه ما يسمح أو لا يسمح للمحكمة الجنائية الدولية النظر فيه من قضايا. كما أن فشل المحكمة الجنائية الدولية في التحقيق في جرائم بوش وبلير وبطانتيهما بين بشكل لا لبس فيه عمليات ازدواج المعايير.
لعلنا في لحظة تاريخية وصل فيها مناخ الرأي العام حالة من التطور تدفع باتجاه المطالبة بالتحقيق في التهم الموجهة ضد إسرائيل حتى لو حالت المعيقات الإجرائية من أن تمضي القضية إلى منتهاها. هذا مهم، لأن أي محاولة جادة يمكن أن تضفي مزيداً من الشرعية على النضال الفلسطيني، وقد يكون لها من الآثار الإيجابية ما يفرز حركة تضامن دولية بالإضافة إلى تكثيف الجهود المبذولة في حملات المقاطعة ومنع الاستثمار والعقوبات ضد إسرائيل.
ومع ذلك، هناك عوائق أخرى. وأولها جميعاً، على السلطة الفلسطينية أن تعد نفسها لما ستصبه عليها إسرائيل من جام غضبها تدعمها في ذلك بلا أدنى شك الولايات المتحدة الأمريكية وبدرجة أقل عدة دول أوروبية. يمكن أن يؤدي رد الفعل الإسرائيلي إلى واحد من نتيجتين: قد تعلن إسرائيل رسمياً عن ضم معظم أو جميع الضفة الغربية، أو – وهذا الأكثر احتمالاً – قد تعمد إسرائيل إلى وقف تحويل الأموال التي ستحتاجها السلطة الفلسطينية لدعم هذه العمليات.
من المؤكد أن الكونغرس الأمريكي سيقتفى آثار تل أبيب حتى لو نزعت إدارة الرئيس أوباما نحو قصر معارضتها على صفعة دبلوماسية على الرسغ كما فعلت مؤخراً رداً على تشكيل حكومة الوحدة الانتقالية التي تحاول إصلاح الأمور بين فتح وحماس.
وثمة عقبة محتملة ثانية تتعلق بالسلطة القضائية للمحكمة الجنائية الدولية والتي تمتد لتشمل جميع جرائم الحرب التي ترتكب في أرض الدولة العضو، وهذا يعني أن قادة حماس يمكن أيضاً أن يخضعوا للتحقيق ويمكن أن توجه لهم تهم بسبب اعتمادهم على الإطلاق العشوائي للصواريخ باتجاه الأهداف المدنية الإسرائيلية.
لا يستبعد بسبب السياسة المحيطة بعمل المحكمة الجنائية الدولية أن تعطى التهم الموجهة لحماس الأولوية.
إذا ما افترضنا أن جميع هذه العقبات أخذت بعين الاعتبار، وأن فلسطين ماتزال تنشد المضي قدماً بالجهود التي تستهدف البدء بالتحقيق في جرائم الحرب المرتكبة في غزة، وكذلك في باقي الأراضي الفلسطينية المحتلة، فماذا بعد؟ وإذا افترضنا، إضافة إلى ذلك، أن المحكمة الجنائية الدولية استجابت بمسؤولية وأعطت جل اهتمامها للمزاعم الموجهة ضد إسرائيل، الفاعل السياسي الذي يتحكم بمختلف جوانب العلاقة.
هناك عدة جرائم كبرى ضد الإنسانية ورد النص عليها في المواد من 5 إلى 9 من إعلان روما يمكن إثبات وقوعها بفضل فائض من الأدلة الأمر الذي سيكون وارداً معه توجيه تهم واستصدار إدانات إذا ما استخدمت فلسطين حقها في مطالبة المحكمة بالبدء بالتحقيق وإذا ما كانت إلى درجة ما قادرة على إحضار المتهمين ليواجهوا المحاكمة. وهذه الجرائم هي: الاعتماد على القوة المفرطة، فرض نظام تمييز عنصري، العقوبة الجماعية، وأزاحة السكان من أماكن معيشتهم.
ليس بإمكان المحكمة الجنائية الدولية الآن الشروع في التحقيق بما يمكن أن يوجه من تهم بجرائم حرب ارتكبت أثناء العملية الجارية الآن ضد غزة والتي أطلقت عليها إسرائيل اسم الجرف الواقي، وهذا بلا شك يحد من سلطتها. جرى في عام 2010 إدخال تعديل تبنته أغلبية من ثلثي أعضاء المعاهدة البالغ عددهم 122، وشمل ذلك تعريفاً متفقاً عليه للعدوان، إلا أن هذا التعديل لن يصبح ساري المفعول قبل عام 2017. ولذلك، ومن هذه الناحية، ثمة ثقب كبير فيما يشتمل عليه تعريف جرائم الحرب المعتمدة حالياً ضمن سلطة المحكمة الجنائية الدولية.
رغم كل هذه المشاكل، إلا أن اللجوء إلى المحكمة الجنائية الدولية يظل ذا قيمة كبيرة بالنسبة للسلطة الفلسطينية، وقد يؤدي إلى تغير في ميزان القوى المؤثرة في الصراع والتي حرمت الشعب الفلسطيني لعقود طويلة حقوقه الأساسية التي يقرها القانون الدولي.
إذا ما تحقق ذلك، فإنه سيشكل تحد كبير وفرصة عظيمة أيضاً أمام المحكمة الجنائية الدولية لتسقط الفيتو الجيوسياسي الذي حصر المسؤولية الجنائية ضمن دائرة عدالة المنتصرين وحرم شعوب الأرض من المساواة أمام القانون الدولي.
ريتشارد فولك: أستاذ القانون الدولي والعلاقات الدولية. حاضر في جامعة برينستون على مدى أربعين عاماً. عينته الأمم المتحدة في عام 2008 مقرراً خاصاً لحقوق الإنسان الفلسطيني لفترة تمتد ستة أعوام.
(ريتشارد فولك: مقرر حقوق الإنسان في فلسطين)