منذ اللحظات الأولى لهجوم 7 أكتوبر 2023، برزت تساؤلات أساسية حول طبيعة الإخفاق الإسرائيلي، وعلى رأسه جهاز الأمن العام (الشاباك) وشعبة الاستخبارات العسكرية "أمان"، في توقع هذا الهجوم غير المسبوق. ورغم أن وسائل الإعلام والمحللين الأمنيين قد تناولوا مرارًا أوجه القصور الاستخباراتي، إلا أن تقرير الشاباك الأخير جاء ليضع هذه الإخفاقات في إطار رسمي، مضيفًا بعدًا أكثر خطورة إلى المشهد الأمني والسياسي في إسرائيل.
لم يكن هذا الفشل مجرد خطأ استخباراتي عابر، بل سلسلة من الإخفاقات المتراكمة على مدار سنوات، كشفت عن ثغرات جوهرية في المنظومة الأمنية الإسرائيلية، في مقابل نجاح استخباراتي واستراتيجي لحماس، لم يقتصر على تنفيذ الهجوم، بل امتد إلى الإعداد له من خلال إحباط قدرة إسرائيل على جمع المعلومات وكشف نوايا المقاومة في الوقت المناسب.
سيقدم هذا المقال تحليلًا لكل نقطة ضعف كشفها تقرير الشاباك، متتبعًا أوجه القصور التي ساهمت في حدوث أكبر اختراق أمني لإسرائيل منذ عقود. سنناقش كيف فشلت المنظومة الأمنية في جمع وتحليل المعلومات بشكل استراتيجي، ولماذا لم يتم التعامل مع مؤشرات التصعيد بجدية كافية.
يُعتبر هذا الفشل الأخطر والأكثر حساسية؛ لأن هجوم حماس المباغت غير مسبوق في شكله وطبيعته وآثاره الميدانية والسياسية حتى أنه أسقط النظريات الأمنية التي طالما تغنت بها إسرائيل. حيث لم يكن لدى الشاباك أو أمان أي إنذار أو تحذير استراتيجي يمكن أن يتيح للجيش الإسرائيلي الاستعداد مسبقًا. ورغم أن هناك مؤشرات عديدة سبقت الهجوم، مثل ارتفاع مستوى تدريبات حماس وإجراء مناورات محاكاة لاجتياح المواقع العسكرية الإسرائيلية، لم يتم التعامل مع هذه المؤشرات بجدية كافية.
أحد الأسباب الرئيسية لهذا الفشل هو افتراض المؤسسة الأمنية والسياسية بما فيهم جهاز الشاباك أن حماس غير معنية بحرب، وأنها تفضل الحفاظ على حكمها في غزة عبر "ضبط النفس"، وهو ما ثبت أنه خطأ قاتل. كما أن الاعتماد على فرضية أن أي تصعيد سيكون محصورًا في ضربات صاروخية محدودة جعل الأجهزة الأمنية تتعامل مع المعلومات بشكل أقل جدية.
لم يكن فشل الشاباك مقتصرًا على عدم توقع الهجوم فقط، بل أيضًا في عدم القدرة على قراءة المؤشرات التي كانت تنذر بأن المواجهة القادمة لن تكون تقليدية. لطالما تعاملت إسرائيل مع الجولات السابقة بناءً على خبرات الماضي، حيث كانت ترى أن حماس تلجأ إلى التصعيد العسكري المحدود للحصول على تنازلات سياسية، لكن هذه المرة، كانت الأمور مختلفة تمامًا.
التقرير يكشف أن المعلومات الاستخباراتية التي كانت متاحة لم يتم ربطها بصورة استراتيجية، حيث لم يدرك الشاباك أن هناك تحركات غير اعتيادية داخل قطاع غزة يمكن أن تشير إلى استعدادات لحرب شاملة. لم يكن هناك تحليل شامل للرسائل الصادرة عن قيادة حماس خلال التصريحات أو المهرجانات مثلًا، ولم يتم التعامل مع التحركات العسكرية كجزء من خطة كبرى، ما جعل الاستعدادات العسكرية الإسرائيلية غير كافية لمواجهة حجم الهجوم.
وفقًا للتقرير، فإن الشاباك يعاني من فجوة في منهجية التحليل الاستخباراتي، حيث لم يتم اعتبار خطة حماس كخيار واقعي يمكن أن تنفذه المقاومة. هذا الفشل لا يكشف فقط عن قصور استخباراتي، بل أيضًا عن غطرسة أمنية إسرائيلية كانت ترى أن أي تحرك عسكري لحماس سوف يكون في حدود المتوقع، وهو ما ثبت خطؤه تمامًا في 7 أكتوبر.
كشف التقرير عن ضعف التنسيق بين الشاباك ووحدة 8200 التابعة للاستخبارات العسكرية (أمان)، وهو خلل كبير في المنظومة الأمنية الإسرائيلية. لم يكن هناك تنسيق مشترك حول المعلومات المتعلقة بتخطيط حماس للهجوم، مما أدى إلى تحليلات منفصلة وغير متكاملة.
هذا يشير إلى وجود تنافس بين الأجهزة الأمنية، حيث يعمل كل جهاز بشكل منفصل دون تبادل كافٍ للمعلومات. كانت النتيجة أن المعلومات التي جمعتها وحدات الاستخبارات المختلفة لم تُستخدم بفعالية في بناء صورة واضحة عن التهديد الحقيقي.
كان من المفترض أن يكون لدى الشاباك شبكة عملاء داخل غزة قادرة على تزويده بمعلومات دقيقة عن تحركات حماس، لكن التقرير يكشف أن العملاء الذين تم تشغيلهم لم يتمكنوا من تقديم أي إنذار مسبق. والأسوأ من ذلك، أن بعض العملاء قدّموا معلومات خاطئة أو كذبوا عند استجوابهم، ما يثبت نجاح حماس في تقويض هذه الشبكة الاستخباراتية الإسرائيلية في القطاع.
هذا يُبرز إنجازًا كبيرًا لحماس في بناء نظام أمني داخلي قادر على كشف العملاء وتضليل الاستخبارات الإسرائيلية. فمنذ سنوات، نفّذت حماس عمليات تصفية واعتقالات داخلية ضد المشتبه بتعاونهم مع إسرائيل، مما أدى إلى تراجع قدرة الشاباك على جمع المعلومات الدقيقة.
كان هناك العديد من المؤشرات التكنولوجية والاستخباراتية التي سبقت الهجوم، لكن لم يتم تحليلها بشكل مناسب. على سبيل المثال، تم رصد تغييرات في أنماط الاتصالات داخل غزة، واستخدام بطاقات SIM جديدة من قبل عناصر حماس، لكن لم يتم التعامل مع هذه المعلومات باعتبارها مؤشرًا على استعدادات عسكرية. هذا يعكس صعوبة التحليل داخل الشاباك، حيث لم يكن هناك إدراك بأن هذه التغيرات قد تعني شيئًا أكبر من مجرد "نشاط غير اعتيادي".
في السنوات الأخيرة، كان هناك توجه داخل الشاباك نحو استخدام التكنولوجيا المتطورة لجمع المعلومات، على حساب تشغيل العملاء البشريين. ورغم أن التكنولوجيا ساعدت في بعض الجوانب، إلا أن غياب المعلومات البشرية الدقيقة أدى إلى فجوات استخباراتية كبيرة.
الاعتماد المفرط على التكنولوجيا جعل الاستخبارات الإسرائيلية أقل قدرة على فهم طبيعة التهديدات التي تواجهها، خاصة أن حماس طوّرت آليات خاصة بها، مما قلل من فعالية الاختراقات الإلكترونية.
تقرير الشاباك يضع الحكومة الإسرائيلية، وتحديدًا بنيامين نتنياهو، في موقف صعب للغاية، حيث يتزايد الضغط السياسي على القيادة الإسرائيلية، سواء من المعارضة أو حتى من داخل الائتلاف الحاكم.
يحاول نتنياهو تحميل المسؤولية للقيادات الأمنية مثل رئيس الشاباك ورئيس الأركان، لكن هذا لن يكون كافيًا لإخماد الغضب الشعبي، خاصة أن أكثر من 70% من الإسرائيليين يدعمون تشكيل لجنة تحقيق رسمية لكشف المسؤولين عن الفشل.
على الجانب الآخر، يُكرّس التقرير نجاح حماس ليس فقط في تنفيذ الهجوم، بل في بناء جهاز أمني قوي قادر على إضعاف وتضليل الاستخبارات الإسرائيلية. هذا النجاح يغير قواعد اللعبة ويجعل إسرائيل تدرك أن المواجهة القادمة لن تكون مشابهة لطوفان الأقصى، لذلك سوف تعمل اليوم جاهدة لمنع نشوب هذه المواجهة بكل الطرق الممكنة.