أمضى ياسر عرفات قرابة نصف قرن وهو القائد المركزي للحالة الفلسطينية بجملتها وتفاصيلها.
ومنذ تسميته ناطقاً رسمياً باسم حركة فتح وترشيحه رئيساً لمنظمة التحرير، خلفاً لرئيسها المؤسس أحمد الشقيري، وإلى أن توفاه الله، وهو يكيف الحالة الفلسطينية مع قيادته الدائمة لها، على مبدأ وضعه لنفسه "أنا فلسطين وفلسطين أنا".
ورث عن سلفه الشقيري منظمة التحرير بإطاراتها ومؤسساتها المثبتة في ميثاق تأسيسها، حافظ عليها كما هي، ولكنه أضاف إليها ما يسهل عليه الإمساك القوي بزمامها، فاستحدث إطاراً وسيطاً بين برلمانها "المجلس الوطني" وقيادتها اليومية "اللجنة التنفيذية" هو المجلس المركزي، الذي تمتع بصلاحياتٍ موازية لصلاحيات "الوطني" وأحياناً بما هو أوسع منها، وذلك بفعل الصعوبات والمعوقات التي كانت تحول دون دورية انعقاد الوطني، حتى اتفاقات وتفاهمات أوسلو على أهميتها فقد تمت بإقرار من الحلقة الوسيطة وليس الأساسية الأعلى.
منذ تسلمّه رئاسة منظمة التحرير عمل بدأب وبمواظبة وبراعة، على أن يُحكم قبضته على القرارات الأساسية، معتمداً على قوة فتح، وتحالفها مع الشخصيات الاعتبارية المستقلة التي أمّنت له أغلبية ثابتة حيّدت تأثير القوى المعارضة له، سواء من داخل المنظمة أو من النظم العربية ذات الامتدادات العضوية فيها، كالبعثين العراقي والسوري.
مع الزمن.. وبفعل سلسلة المعارك الكبرى التي قادها على الجغرافيات العربية المحاذية لفلسطين، وما نتج عنها، من إنجازات سياسية، تكرّس نظام سياسي يستحق تسميته بنظام عرفات، كانت واجهته مؤسسات فتح والمنظمة، التي توفر شرعية مستقرة له ومحتواه إمساك الرجل المركزي بكل المفاتيح والأقفال التي تجعل من السيطرة عليه مستحيلةً على غيره، فلسطينياً كان أم عربياً أم دولياً.
رحل عرفات بعد ما يربو عن نصف قرن وهو في قلب ومركز الحالة الفلسطينية، وقبل رحيله وقعت جائحة أودت بحياة كل المرشحين لخلافته ممن يسمون بالتاريخيين المؤسسين، خليل الوزير، صلاح خلف، خالد الحسن، لم يبق من هذ الجيل سوى اثنين فاروق القدومي الذي نأى بنفسه عن السياسة والخلافة، ومحمود عبّاس الذي قيضت له الأقدار لأن يكون الخليفة التلقائي لعرفات، والوارث لنظامه، الذي يشبه صندوقاً مغلقاً مفتاحه بيد عرفات وحده، وفي هذه الحالة وخلال أيام معدودات، تبين للخليفة التلقائي أن الراحل أخذ أقفاله ومفاتيح صندوقه معه.
عبّاس كان جزءاّ من نظام عرفات ولم يكن شريكاً في تأسيسه وتشغيله، وحين آلت كل الأمور إليه وجد نفسه على رأس جيش أسسه غيره ببناه وتقاليد عمله وكتائبه وألويته وفرقه.
في حياة عرفات حاول العالم وضع حلٍ لهذه المعضلة، وذلك بإيجاد صيغةٍ يكون فيها عبّاس شريكاً فعلياً في إدارة النظام السياسي الذي نشأ بفعل أوسلو، كان نظاماً مزدوجاً، المنظمة والسلطة في مكان واحد، وتأسست شراكة بين الرجلين، على رأس النظام المستجد من خلال استحداث موقع رئيس للوزراء يتقاسم السلطات والمسؤوليات مع رئيس السلطة، إلا أن التجربة فشلت تماماً بفعل هيمنة عرفات ونفوذه الشامل في الحياة الفلسطينية، ما حمل عبّاس على فض الشراكة بالاستقالة المبكرة بعد أن دامت أقل من أربعة شهور، لتنتج حالةً تحوّلت فيها رئاسة الوزراء من شريك إلى موظفٍ ملحق بالرئاسة العليا، وهذا ما بقي حتى الآن.
ولسوء حظ عبّاس أنه ورث حالة لا يقوى على إدارتها سوى صانعها.
كان صندوق عرفات مستجيباً تماماً لزمن الثورة ومتطلباته، أمّا ما نحن فيه الآن من تشتت في القوى وتهميش للإطارات وانحسار في الالتفاف الشعبي حول فتح والمنظمة والسلطة، فكثير منه راجع لغياب المؤسس.
وما يجري الآن من محاولات للمعالجة تحت عنوان الإصلاح، فلا صدقيةً عمليةً لها، بل هي مجرد تحسينات تصيب القشرة ولا تصل إلى الجوهر.
الحالة الفلسطينية تتطلب صندوقاً جديداً، وما دمنا بصدد الحديث عن شعبٍ حيٍ يَعدّ بالملايين وقضية تشغل بال العالم كله، فالجديد حتمي وممكن، ولدى الفلسطينيين عقولاً مبدعة تقدر على إنتاجه.