رغم مرور نحو العام على أوسع وأشرس عدوان يتعرض له قطاع غزة منذ العام 1967، إلا أن ذاكرة المواطنين لازالت حبلى بالمآسي والمشاهد المروعة، وقلوبهم تخفق خوفاً من تكرار المشهد.
ففي عموم قطاع غزة، لم يسلم بيت من الأذى، ولم تنجُ أسرة من الفجائع، فهذا دمر بيته، وآخر تضرر منزله، وكثر من فقدوا عزيز أو قريب، بينما لازال الجرحى يئنون ويرجون من الله الشفاء.
مشاهد في الذاكرة
فشرق مدينة رفح، جنوب قطاع غزة، كانت واحدة من أكثر المناطق سخونة خلال العدوان، فخلال ساعات معدودة فقدت المدينة نحو 200 شخص جلهم من المدنيين، ما بين امرأة وطفل وشاب ومسن، في أعنف موجة من القصف البري والبحري والجو تتعرض له المدينة الصغيرة في تاريخها.
ويقول المواطن المسن محمد عرفات "64 عام": عايشت عدواني 1956، و1967، والانتفاضتين الأولى والثانية، لكني لم أر أو اسمع في حياتي مثل الذي رأيته صبيحة الأول من آب المنصرم "الجمعة الأسود".
وصمت عرفات قليلاً، وتنهد ثم استطرد واصفاً أصعب لحظات حياته: " بدأت قذائف المدفعية تتساقط بكثافة عند أطراف حي التنور شرق رفح، ما ظنه السكان بأنه إنذار لقصف منازلهم، فبدؤوا بمغادرة الحي بالمئات، والتوجه إلى المخرج الوحيد المسمى محليا "مفرق البلبيسي".
وهنا كانت طائرات الاستطلاع التي تحلق بكثافة في الأجواء تصور وترصد المشهد، وحين اكتظ مخرج الحي بالنازحين، نفذت الطائرات الحربية الجريمة، وبصورة مفاجئة وغير متوقعة، حيث قصفت بواسطة صواريخ ثقيلة منزلين كل منهما مكون من عدة طبقات، ويقعا على جانبي المخرج، لتتحول كتل خرسانية والحجارة إلى شظايا قاتلة، نشرت الموت في محيط دائرة وصل نصف قطرها إلى 500 متر.
وتابع يقول: " تساقط الشهداء والجرحى بالعشرات، وعلا الصراخ، هرعت للبحث عن أفراد عائلتي، حتى وجدت زوجة ابني وعلى يدها حفيدي الرضيع، مدرجين بدمائهما، نقلتهما للمستشفى سريعاً، وكان الأخير قد اخلي قسراً بسبب شدة القصف، فتوجهت إلى مستشفى خاص، ليخبروني بأن حفيدي ويبلغ من العمر ثلاثة أشهر فارق الحياة، بينما والدته كانت تعاني إصابات بالغة.
صور قاسية
أما المواطن علاء عبد الله، فلازال يحمل في ذاكرته أقسى الصور، فهو كان من بين المسارعين بالتوجه لمنزل عائلة ضهير، الذي قصفته الطائرات بصورة مباغته، ليصدم بمشهد الجثث المتناثرة والمقطعة.
وأوضح عبد الله، أن ساعات معدودة كانت كفيلة باستخراج أكثر من 20 جثة لسكان المنزل، قضوا جميعاً تحت الركام، تاركين في عقله وقلبه صور مأساوية لن ينساها طوال حياته.
ولم يستطع أبناء الشهيدين موسى ويسرا أبو جزر، العودة للإقامة في منزلهم مجدداً، رغم ترميمه وإصلاح ما لحق به من إضرار جراء القصف الإسرائيلي.
فالأبناء وأكبرهم لم يتجاوز عامه العشرين، بينما أصغرهم لازال صغيراً يبلغ من العمر "5 سنوات"، فقدوا في لحظة كلا الأبوين، حين سقطت قذيفة مباغتة أمام المنزل، ومنذ ذلك الوقت وهو يقطنون في منزل مستأجر، ويرفضون جميعهم العودة للإقامة في منزلهم، رغم محاولات الأقرباء تبديد مخاوفهم، فجرحهم الغائر لازال ينبض بالحياة، التي لم يعد لها طعم بعد رحيل الأبوين.
عائلات فخورة
ولم يكف المواطن صبحي فرحات أبو محمود، عن تذكر نجله الشهيد محمود، وهو الذكر الوحيد الذي رزق به، وقد جاء شهر رمضان حاملاً معه ذكريات أكثر إيلاماً.
فمحمود كان يرافق والده في التوجه للمسجد، وفي جلسات السمر الرمضانية، ارتقى بقصف مباغت لسطح منزل العائلة.
وأكد فرحات، أنه ورغم حزنه على نجله، وفقدانه في كل تفاصيل حياته، إلا أنه فخور به، فبفضل استشهاده أضحى يحمل لقب "والد شهيد"، ويسأل الله أن يجمعه به في الجنة، وان يكون شفيعاً له ولوالدته وشقيقاته.