شهدت البلاد خلال مراحل مواجهتها مع الاحتلال الإسرائيلي، اضطرابات داخلية تتبع المعارك، وما يحدث اليوم في لبنان يُعطي مؤشرًا واضحًا على صراعات محتملة بين الأطراف المتنازعة محليًا، خصوصًا بعد إعلان وقف إطلاق النار. في الوقت نفسه، يبقى المشهد في غزة غامضًا بالنسبة لليوم التالي، لا سيما أن عملية تبادل الأسرى لم تنتهِ بعد. التاريخ يؤكد لنا من خلال تجاربه المختلفة أن هذه التوترات الداخلية، التي تلي الحروب، هي ظاهرة متكررة دائمًا بعد كل معركة تخوضها حركات المقاومة ضد الاحتلال الإسرائيلي، مما يعزز التساؤل حول ما قد يحمله المستقبل للبنان بعد الحرب الأخيرة.
بعد تحرير جنوب لبنان عام 2000، ظهر تضامن واحتفال شعبي واسع خلف المقاومة من مختلف المناطق والطوائف اللبنانية، في حدث اعتبره الجميع تاريخيًا وإيجابيًا للمنطقة. لكن ما كان يُحاك في الخفاء لم يكن معروفًا للعامة. ففي عام 2005، عادت هذه المناطق التي كانت متحدة خلف المقاومة إلى حالة من الإنقسام، ودخلت مرحلة جديدة اتسمت بعودة الخلافات الطائفية إلى الواجهة. اغتيال رئيس الحكومة رفيق الحريري كان بداية لمرحلة من التوترات الطائفية، حيث تحولت المناطق التي رفعت أعلام حزب الله بعد التحرير إلى شوارع تندد به وتطالب بانسحاب حليفه، الجيش السوري، الذي كان لا يزال موجودًا في لبنان آنذاك.
ترجم هذا التشتت إلى تشكيل تحالُفين: الأول نظم تحركًا في 8 آذار تأييدًا لسوريا بعد شهر واحد من اغتيال الحريري، بينما دعا الثاني إلى التحرك في 14 آذار للمطالبة بالانسحاب السوري من لبنان، وهو ما تحقق في 26 نيسان من العام نفسه. ومع تصاعد التوترات، ربما قرأ أحدهم بأن استمرار هذا الوضع قد يؤدي إلى صراع داخلي، فاندلعت حرب جديدة مع إسرائيل في 12 تموز عام 2006 بعد عملية نوعية نفذها حزب الله تمثلت في أسر جنديين إسرائيليين. استمرت الحرب 33 يومًا، شهد خلالها لبنان عدوان واسع، انتهى بانسحاب إسرائيل من الأراضي اللبنانية، ما نتج عنه في نهاية المطاف، عودة اللبنانيين إلى التلاحم، تاركين خلفهم الإنقسامات الطائفية. وقد أعاد هذا المشهد إلى الأذهان ذكرى التحرير في 25 أيار عام 2000.
لكن إذا كان لبنان قد نجح في تجنب الانزلاق إلى صراع داخلي قبل عام من 2006، إلا أنه هذه المرة لم ينجُ من ذلك. فما إن انتهت الحرب بإعلان وقف إطلاق النار وبدء تطبيق بنود القرار 1701، بما في ذلك عملية تبادل الأسرى بين إسرائيل وحزب الله في 16 تموز 2008، حتى دخل لبنان في نفق مظلم مع اندلاع أحداث السابع من أيار. التي حصلت بعد أن أعلنت الحكومة اللبنانية في الخامس من أيار، قرارًا بتفكيك شبكة الاتصالات التابعة لحزب الله. نتج عن هذه المعركة توترات داخلية بين مختلف الأطراف اللبنانية، حيث تُرجمت إلى تجييش كبير للحقد الطائفي بين اللبنانيين بعد سيطرة حزب الله وحلفائه على بيروت عسكريًا.
من خلال المتابعة، يمكن للمراقب أن يلاحظ أن انسحاب القوات الإسرائيلية دائمًا ما يترك خلفه معارك قادمة، ليس فقط في لبنان. ففي غزة، بعد أن صوّتت الحكومة الإسرائيلية على خطة رئيس الوزراء أريئيل شارون للانسحاب من القطاع وإزالة المستوطنات والقواعد العسكرية في 12 أيلول 2005، اندلعت معركة داخلية بين الفصائل الفلسطينية في صيف 2007، انتهت بسيطرة حركة حماس على القطاع بعد فوزها في الانتخابات النيابية عام 2006، مع إنهاء سلطة حركة فتح على غزة في 15 حزيران 2007.
وإذا أردنا ربط ما حدث سابقًا بواقع اليوم، فإن ما يحدث في لبنان بعد إعلان وقف إطلاق النار يشير إلى صعوبة المرحلة القادمة. فقد شهدت شوارع بيروت مؤخرًا توترات عديدة، سبقتها استحقاقات مهمة على الصعيد المحلي، مثل انتخاب رئيس الجمهورية، والذي لم يكن موافقًا عليه حزب الله دون ضمانات مقابل تخليه عن مرشحه سليمان فرنجية، وتعيين نواف سلام رئيسًا للحكومة، وما تبعه من خلافات حول توزيع الحقائب الوزارية، لا سيما تسليم وزارة المالية للثنائي الشيعي.
الا أن ما تلا هذه الاستحقاقات كان أكثر إثارة للقلق، حيث هددت الأحداث بجر البلاد إلى ما لا تحمد عقباه. فقد أصدر رئيس الحكومة اللبنانية نواف سلام قرارًا بمنع هبوط طائرة إيرانية تحمل مواطنين لبنانيين في مطار بيروت، وذلك بهدف تجنب استهداف المطار بناءً على تحذيرات إسرائيلية من احتمال استهداف الطائرة بدعوى أنها تحمل أموالًا لحزب الله. في المقابل، صرح رئيس الجمهورية جوزاف عون أن الطائرة تخضع لعقوبات دولية تمنعها من الهبوط في مطار بيروت. وعلى إثر ذلك، نزل مناصرو حزب الله إلى الشوارع وأغلقوا العديد من الطرقات احتجاجًا على القرار. مع ارتفاع أصوات تطالب بفتح مطار القليعات شمال لبنان، لتجنب أي أزمة قد تنشأ في حال استهداف مطار رفيق الحريري الدولي. هذه الأحداث أعادت إلى الواجهة الخطابات الطائفية، حيث بدأ كل طرف يربط المطارات بالطوائف التي تسيطر على المناطق المحيطة بها، مما يشير إلى صعوبة المرحلة القادمة، خصوصًا مع تشديد الحصار الذي تحاول إسرائيل وحليفتها أمريكا فرضه على حزب الله، ومنع وصول الأموال إليه. كما أن بقاء الاحتلال في بعض النقاط على الحدود الجنوبية، بالإضافة إلى غياب كلمة "المقاومة" من البيان الوزاري، وتأكيد البيان على حق الدولة في احتكار السلاح، كلها عوامل قد تؤدي إلى إدخال لبنان في دوامة جديدة من الاقتتال الداخلي بعد انتهاء الحرب مع إسرائيل، عوضًا عن الأحداث الأخيرة التي يشهدها الساحل السوري، ومدى تأثيره على الوضع اللبناني، بعدما شهدت شوارع طرابلس في لبنان توترات نتيجة المعارك الدائرة في سوريا.
كل هذا يدفعنا إلى طرح أسئلة جادة حول سبب افتعال المعارك الداخلية بعد كل عدوان يفشل فيه الاحتلال في تحقيق السيطرة العسكرية، فيحاول تعويض ذلك بالهيمنة السياسية وخلق الفتن.