الإثنين  17 آذار 2025
LOGO
اشترك في خدمة الواتساب

ترامب والدولة العميقة| بقلم: ناجح شاهين

2025-03-17 11:22:57 AM
ترامب والدولة العميقة| بقلم: ناجح شاهين
ناجح شاهين

 يحدث أن بعض الناس الذين ما زالوا يقاومون استقالة العقل النهائية عن أسباب تغير الحزب والرئيس في أمريكا دون أن يتغير الكثير في السياستين الداخلية والخارجية. ولا بد أن العين المجردة قد أبصرت كيف اصطدم ترامب بالدولة في دورته الأولى عندما فكر في "مصالحة" كوريا الشمالية، مثلما اصطدم بها جون كنيدي إضافة إلى تحجيم قدرة أوباما على الفعل.

يعزو البعض سبب ثبات السياسات الاستراتيجية مع التغير في القيادة وتداولها بين الأحزاب والأشخاص إلى وجود جزء عميق من الدولة يسيطر على دفة الحكم الفعلية ويوجهها دائما دون أن يكون موجودا في واجهة الحكم. وهذا الجزء المزعوم أصبح مفهوماً سياسياً راسخاً يستخدم في تفسير ثبات السياسات الغربية على وجه أخص.

ولكن مصطلح الدولة العميقة لم يكن واضحا بذاته، أو رائجاً على نطاق واسع مع ولادة العلوم السياسية منتصف القرن العشرين. ويبدو أن انتشاره يعود إلى العقد الأخير من القرن العشرين، أو بمعنى أدق العقد التالي لتفكك الاتحاد السوفييتي. كأنما بدأ الناس يفكرون في الغرب عامة، وفي أمريكا خاصة في أن الديمقراطية التي عاشوا وهجها وسط إيمان شبه ديني بأنها تعني الحرية والاختيار المستند إلى إرادة الجماهير كانت مجرد أوهام ايديولوجية استخدمت في اطار الهجوم على الاتحاد السوفييتي، وأن حقيقة أمريكا قد لا تقل في عمقها دكتاتورية وشمولية عن حقيقة الاتحاد السوفيتيي والأنظمة الشيوعية. بداهة أن من يتابع السلوك القطيعي للمواطن الأمريكي المذعن يدرك أن الدكتاتورية الأكثر فاعلية في التاريخ هي التي بنتها النخب الفكرية والإعلامية في الولايات المتحدة: لقد خلقت إجماعاً على مجموعة من "الثوابت" لم ينجح أي دين أو فلسفة أو فكر في إنجازه في أي مكان أو زمان مغاير.

لكن ما قلناه يشكل على أية حال البداية لا أكثر. فقد ظل المفهوم/المصطلح يعيش في دوائر الناس الذين يميلون إلى فكرة المؤامرة الكبرى في التاريخ والسياسة، من قبيل من يظنون أن الماسونية تسيطر على العالم، أو أن اليهود يبرمجون من طرف خفي كل شيء ويوجهونه بحسب رغبتهم ومصلحتهم. بل إن مثل هذا الرأي يمكن أن يتوسع ويتمدد ليشمل كل شيء جرى في العالم في القرون الثلاثة الأخيرة. وفي هذا الاتجاه يرى بعض المفكرين الإسلاميين أن ماركس وفرويد ودوركيم (ثلاثة من شياطين اليهود) قد كتبوا ما كتبوه بغرض تقويض الدين، والتمهيد لسيطرة اليهود على العالم. وقد انطلق أحد هؤلاء الشياطين من الاقتصاد السياسي، بينما انطلق الثاني من علم النفس، وأجهز الثالث على علم الاجتماع منشئين خطة محكمة لتقويض الدين بعامة، والدين الإسلامي على وجه الخصوص.

هكذا عاش المفهوم في نطاق محدود أكاديمياً، أو في نطاق المؤمنين بنظرية المؤامرة الكبرى التي تكاد تكافئ خطة إلهية للكون، حتى انتخاب دونالد ترامب رئيساً دخيلاً لا صلة له تقريباً بدوائر الحكم التي لم يترعرع في شوارعها أو حواريها كثيراً أوقليلاً. الرئيس الأمريكي عادة يجب أن يكون ابن المؤسسات، وأحد "الرجال" البارزين في الحزبين الذين يتداولان السلطة في أمريكا منذ زمن لم يعد يتذكره أحد.

ولا بد أن ترامب بألعابه البهلوانية هو الذي أطلق مصطلح الدولة العميقة من قمقمه منذ مطلع رئاسته الأولى التي اتسمت بصدام متصل تقريباً مع وسائل الإعلام الراسخة في الحياة الأمريكية، والإدارة البيروقراطية المستقرة منذ عقود عديدة. شن هؤلاء عليه حملة اتهامات خطيرة بلغت مستوى الزعم بتلقيه الدعم الروسي الذي مكنه من كسب الانتخابات. وهكذا بدأ الرجل يتحدث عن دولة عميقه تواجهه وتتآمر عليه. والحقيقة أن المرء لا يستطيع أن ينكر أن هناك "تقاليد" و"قواعد" و"سياسات" مستقرة لها حراسها الذين لا يمكن لنا أن ننفي وجودهم بشكل كامل، مع أننا لا نجرؤ على التفكير في أن هؤلاء يديرون البلاد ويسوسون العباد مثلما ينبغي، بغض النظر عمن يستلم الحكم. أليس من المألوف القول في مستوى أصغر من ذلك أن تغيير الوزير لا يغير في عمل الوزارة أو سياساتها شيئا، وأن من يريد أن يغير الوزارة جدياً، فعليه أن يغير عشرة أو عشرين شخصاً من صناع السياسات الذين لا يتأثرون بتغير الوزارات باعتبار أنهم موظفون مدنيون لا صلة لهم بالسياسة؟! لكن هؤلاء في الحقيقة هم من يصنع الواقع التعليمي أو الاقتصادي أو الصحي، وليس الوزير العابر المرتبط بحزب معين. غير أن تعايش أية حكومة جديدة مع الموظفين أنفسهم، لا بد أن يعني ضمنياً أن هناك دولة راسخة، تشبه على نحو ما البنية التحتية عند ماركس، ولا تتأثر بتغير الأحزاب، أو ان الدولة العميقة هي الدولة الرأسمالية بمصالحها، ومصالح الطبقة التي تهيمن فيها بغض النظر عن الأحزاب والقادة الذين يتغيرون دون أن يتغير جوهر هذه الدولة ومصالحها وسياساتها الأساسية.

ولأن الفهم الماركسي للدولة بوصفها أداة للسيطرة الطبقية، موجود طوال الوقت ليؤكد على ثبات البنية العميقة التي تخدم هيمنة البرجوازية في العصر الحديث، فإن مصطلح الدولة العميقة لم يكن لينشط في الأكاديميا الأمريكية العملاقة التي تعمل في خدمة رأس المال، وتمثل شئنا أم أبينا أهم أكاديميا تدرس وتبحث وتنتج السياسة المقارنة على مستوى كوني. ولذلك فقد احتاج المصطلح "المشاكس" إلى شخص من خارج النخب الفكرية لكي ينتعش وينتشر ويروج دون أن يكون له ذيول ثورية أو ماركسية أو يسارية بأي شكل.

وهكذا كان ترامب هو النبي/الأحمق الذي كشف للناس على نطاق واسع أن الدولة الديمقرطية الغربية ليست دولة قابلة للتغيير كلما تغير اسم الحاكم، وأنها في الحقيقة دولة مستقرة من النواحي الأساسية سياسياً واقتصادياً وإدارياً، ولا تتغير إلا بمقادير بسيطة لا تؤثر في جوهر الحياة الداخلية أو الخارجية شيئاً.

شعبوية ترامب وروحه الخفيفة المرحة والبسيطة والفجة أدت دورها في فضيحة اصطدامه ومستشاريه مع البيرواقرطية التي يسميها الدولة العميقة. كان الرجل في فترته الأولى فقيراً للتدريب السياسي الأولي بما سمح بأن يقوم بالأشياء على نحو مكشوف طفولي وفج ليعلن مثلا على الملأ أن ملك السعودية يدفع له الجزية ليقوم بحمايته. ليس من أحد يجهل باستثناء الأميين والأطفال الرضع أن السعودية تدفع الجزية، وأنها تفعل ما تريد أمريكا، ولكن الكياسة السياسية تقتضي أن لا يعلن الرئيس الأمريكي ذلك.

ولعل من غير الملائم في أحيان كثيرة أن نسمي الأشياء بأسمائها الصريحة. إن الشاب في البلاد العربية، على سبيل المثال، يتواصل مع الصبية بغرض "تزبيطها" بحسب اللغة المتدوالة، وهي تعلم ذلك، ولكنه لا يقول لها مباشرة إنه يريد "تزبيطها" من أجل علاقة جنسية أو عاطفية عابرة، وإنما يتقنع بكلام الحب والرومانسية ليصل إلى لحظة الحقيقة بدون أن يكون مباشراً على الرغم من أن الطرفين يعرفان فحوى اللف والدوران العاطفي الذي يجب أن يوصل في النهاية لى الفراش.

ترامب لا يحب هذا الطريق المتعرج الممل، ولذلك قال "لفتاته" السعودية صراحة إنها تملك شيئاً الا البترودولار وأن عليها أن تدفع جزءاً كبيراً منه لكي تقوم أمريكا بحمايتها والا كيلا تسقط خلال أسبوع من الزمن. بداهة أن الموظفين الذين يتعاملون مع السعودية منذ عقود اصيبوا بالحرج وخجلوا واتصلوا واعتذروا، لكن ترامب ظل يمارس سياسته الطفولية النزقة والاستعراضية بأشد أشكالها فجاجة. وهكذا تسلل إلى عقل الرئيس الغريب الأطوار أنه يواجه عصياناً خفيّاً يستهدف تقويض شرعيته، ومحاصرته، وتقييد قدرته على تنفيذ أجندته، وصولاً إلى تحقيق الغاية العظمى، وهي إخراجه من منصبه.

وجاء ردّه سريعاً ومتوقعاً بأن هناك من يُحيك مؤامرة ضده من داخل أوساط جهاز الدولة البيروقراطي الإداري، مع أطراف من الوسط الأمني، بالتحالف مع الديمقراطيين، والليبراليين الموالين للرئيس السابق أوباما، ووسائل الإعلام الليبرالية التي اتهمها بتلفيق "الأخبار المزيفة".وبدأ ترامب ما يشبه النزاع مع الإعلام ومكتب التحقيقات اف بي اي ووزارة العدل بما بدا وكأنه نزاع مع الدولة العميقة . لم يسبق لرئيس أن وجد نفسه في صدام مباشر مع الإعلام كما حدث مع ترامب الذي أوحى لأنصاره على الأقل أن هناك دولة أخرى مستترة تقف ضد الهيئة الإدارية التي انتخبها الشعب لإدارة الولايات المتحدة وحكمها. كأن قيادة وإدارة أخرى تمسك مقاليد الأمور سراً، وتستطيع أن توجه الدفة باتجاه لا يرغبه الرئيس وإدارته الشرعية، أو كأن حدودا للتغيير الذي يستطيع الرئيس أن يجريه في الداخل أو الخارج.

ولكن ما هي هذه "الدولة العميقة" على وجه الضبط والدقة؟

يبدو أن الدولة مجموعة غير مرئية وعميقة التجذّر، غير خاضعة للمساءلة أو المحاسبة، تسيطر على صنع السياسات الداخلية والخارجية للبلاد، وتتخفى تحت السطح المظهري للنظام الديمقراطي القائم على أسس دستورية وقانونية. ما يعنيه ذلك، من ناحية فعلية، هو انتقال القوة من عند المنتخبين إلى آخرين غير منتخبين، والذين يصبحون المتحكمين الحقيقيين في القرارات السياسية الأساسية في البلاد، فيسيّروها وفق أجندتهم الخاصة، تحقيقاً لرؤيتهم ومصالحهم.

بالتالي، يصبح في الدولة مستويان للحكم:

الأول، هو الظاهر والمُنتخب، والذي يَظنّ بأنه المسؤول عن تحديد سياسات البلاد، ولكنه في حقيقة الأمر ليس أكثر من مستوى صوري ومظهري فقط، ودرجة تمثيله للشعب وتحكُّمه في النظام تبقى ضعيفة، إن لم تكن معدومة بالكامل.

أما المستوى الثاني، فهو الباطن وغير المنتخب، بل المستتر الموجود في ثنايا المستوى الأول الذي يغلفّه، وبالتالي يوفّر له الحماية من الانكشاف للشعب.

في هذا السياق تشكل الأجهزة الأمنية المؤسسة سنة 1947 لمواجهة الشيوعية ركناً مهماً من أركان الدولة العميقة وخصوصاً وكالة المخابرات والمركزية وشقيقتها الفيدرالية ووكالة الأمن القومي وقيادات الأجهزة العسكرية السرية واستخبارتها إضافة إلى وكلاء الوزارات المهمة من قبيل الخارجية والعدل والمالية والبنتاغون .

من ناحية أخرى هناك "الثنك تانك" وقادة المال والاقتصاد والإعلام والجامعات الكبرى ورجال السياسة المتقاعدون من رؤساء ووزراء ونواب، وهذه المادة التي تعد بعشرات الآلاف من الأشخاص تقريباً تشكل الدولة العميقة التي لا يمكن فعل شيء يخالف توجهاتها الجوهرية خصوصا منذ 11 أيلول واطلاق يد الدولة الأمنية لتفعل ما تريد دون استشارة الكونغرس أو الرئيس.

من المهم هنا أن نشير أن الدولة العميقة تنظر باستهانة واحتقار إلى الموظف العابر من قبيل الرئيس والوزير بينما موظفو الدولة العميقة هم الأدرى بالبلاد لأنهم موجودون منذ زمن طويل يتجاوز بكثير فترة الرئيس أو فترتيه إن أعيد انتخابه، وهذه البيروقراطية الثابتة هي التي تقدم للرئيس الأقنية التي تمر من خلالها أنشطة الدولة، وهي قادرة على سد الطرق في وجهه إن رغبت في ذلك.

من الواضح أن هذه الدولة قادرة على ما يبدو على فعل أشياء دون العودة للرئيس أو حتى دون أن يعلم بها أصلاً. وهي بهذا المعنى تسير السياسة في البلاد وتتدخل في سياسات البلاد الأخرى بغض النظر عن هوية من يجلس في البيت الأبيض. ويبدو أن ترامب في دورته الجديدة يريد أن يضرب رأسه بصخورها مرة أخرى مستعيناً برجال لا يقلون عنه مغامرة و"عباطة" يقف على رأسهم صفيه ونديم أنسه الملياردير العجيب إيلون ماسك.