لا يتوقع من الفلسطيني أن يتفاجأ من قتله العمد، لكنه عندما يصحو على عمليات إحصاء أعداد الشهداء والجثامين المفقودة تحت الركام بعد أسابيع قليلة من هدنة هشة كان يريد الإسرائيلي إفشالها منذ اليوم الأول بأي ثمن، فإنه يُصاب بالذهول. وليس مرد هذا الذهول الحدث الواقع بعينه على فواجعه، والذي يذكر بالأيام الأولى لحرب الإبادة على القطاع، وإنما مكمن الذهول أن النوايا المعلنة لاستئناف قتل الفلسطيني بوتيرتها التي شهدها القطاع اليوم فيما وكأنه تطبيق لمقولة ترمب بفتح أبواب الجحيم على الفلسطينيين في غزة من جديد، إنما فيها من السياسة الفجة لنتنياهو وترمب الكثير من المقايضة الوقحة التي تساوم بجسد الفلسطيني تحقيق مكاسب سياسية، ليكون جسد الفلسطيني-الغزي وسيلة سياسية لغاية في نفس يعقوب هذا الزمن الصهيوني بامتياز.
إن الوضع المتفجر في وجه نتنياهو الملاحق قضائيا، والمهدد إئتلافيا بانهيار حكومته إذا لم يستأنف حرب الإبادة على القطاع، واحتجاجات أهالي الأسرى الإسرائيليين في غزة، ومحاولاته إعادة ترتيب الولاءات السياسية داخل منظومته الحاكمة عبر سلسلة الإقالات والتعيينات، كلها ملفات متفجرة لا يمكن لنتنياهو التخلص منها، أو بالأحرى تأجيلها، إلا في حالة استئناف الحرب على القطاع. أما ترمب، رجل الأعمال- الرئيس، فأراد أن يحقق مكسبا سياسيا سريعا في بداية ولايته بأن أعلن عن إنجاز هدنة لتبادل الأسرى والتي أظهرته بمظهر سيد المواقف الصعبة الأول والأخير وصاحب القرارات المحققة. وهو فعليا ما أوحى للكثيرين بأن حرب الإبادة قد توقفت، فعاد الجميع إلى استئناف حياتهم العادية باعتيادية ملفتة وكأن أيام وأشهر الحرب الطوال قد انتهت دون وعي أن جسد الفلسطيني الميت هو عتبة سياسية يحقق الإسرائيلي ومعه الأمريكي نقاطا لصالح كل منهما وأن الحاجة قد تجددت الآن لفتح نيران المقتلة عليه من جديد.
فذرائع نتنياهو التي بدأت وسائل الإعلام الإسرائيلية بنقلها ابتداء من مساء السبت بأن حماس ترفض مقترحات المبعوث الرئاسي الأميركي إلى المنطقة، ستيفن ويتكوف، وأنها ترفض الإفراج عن الأسرى الإسرائيليين، وبالتالي فإن إسرائيل تدرس استئناف الحرب لتحقيق أهدافها، قد صبت جميعها في إعادة تمتين الائتلاف الحكومي لنتنياهو الذي من المتوقع أن يعود له الوزير المستقيل ايتمار بن غفير، ما يعزز بقاء نتنياهو على رأس السلطة، لأن الحكومة الإسرائيلية مقبلة على اتخاذ قرارات في الشأن الإسرائيلي الداخلي بحاجة إلى ائتلاف حكومي متماسك.
أما ترمب الذي خلق معضلة سياسية بموافقته على الهجمات المفتوحة على الحوثيين في اليمن ودون أن يحدد هدفا سياسيا واضحا يمكن وقف العمليات عند تحقيقه، فإن هذه الهجمات جعلته يبدو كتاجر فاشل في إدارة الحروب، خاصة وأن الحوثيين قد استمروا في قصف البوارج الأمريكية في البحر الأحمر حتى بعد الضربات الأمريكية. لذلك فإن الموافقة والتنسيق الأمريكي-الإسرائيلي في استئناف العدوان على غزة، هو محاولة لموازنة القرار الذي بادر إليه ترمب والذي قد يربط وقف العدوان على اليمن بانتهاء مهمة إسرائيل في غزة.
ليست الشراكة الإسرائيلية الأمريكية والاجتماع على قتل الفلسطيني وإبادته سياسة جديدة على العقلية الغربية العنصرية الاستعمارية، التي لم تر يوما في الآخر غير الغربي سوى مصدرا لتحقيق المكاسب، منذ الاستعمار القديم وحتى الاستعمار المتأخر وصولا إلى هذا النمط الاستعماري الذي تشكل فيه الإبادة غريزة فجة تحركه وتُعين وجوده في حالة مستمرة، قوية الحضور، متعينة، يتفاخر فيها القاتل بالمقتلة، ويلوم الضحية على اضطراره قتلها!