الجمعة  21 آذار 2025
LOGO
اشترك في خدمة الواتساب

غزة: تأملات في معنى الوجود في ظل التوحش/ بقلم: عوض عبد الفتاح

2025-03-20 11:34:04 AM
غزة: تأملات في معنى الوجود في ظل التوحش/ بقلم: عوض عبد الفتاح
عوض عبد الفتاح

في زمن الأزمات الإنسانية الكبرى، تنشأ أسئلة وتساؤلات وشكوكٌ حول جدوى الحياة، وغاية الوجود، وهي أسئلة وتساؤلات تجتاح الأفراد والجماعات، وتُصبح ثقيلةً وشديدة الوقع، مع تعذّر الخلاص وغياب المنقذ.

إن سؤال المعنى، أو السؤال عن معنى وغاية الوجود، ينزل ثقيلا وضاغطا على الأفراد والجماعات في زمن هذه الازمات والكوارث، سواء التي يسببها البشر أو التي تصنعها الطبيعة. ومنذ القدم بحث الإنسان عن معنى لهذا الوجود ووجده بالايمان بآلهه يتبّرك بها، وبإعمار الارض وتحقيق حاجاته المادية والروحية، ولاحقاً وجد أو تعرف إلى الله الواحد، خالق الكون، من خلال الأنبياء، ورسائلهم وتصوراتهم الروحية والانسانية والاجتماعية التي تهدف الى ضبط نزعات الشر عند الانسان، فيشعر بالسكينة والطمأنينة ويتراجع عنده القلق الوجودي. ومن هذه الرسائل نشأت أنظمة وضوابط سلوكية وأخلاقية، حدّت من تغوّل الانسان على أخيه الانسان وضبطت إلى حدٍّ ما العلاقات الاجتماعية.

وبعدها انتقلت البشرية، وتحديداً أوروبا، إلى عصر الحداثة والرأسمالية، فشعر الانسان بقدرته على السيطرة على الطبيعة، من خلال العقل وحده، وتحقيق سعادته، دون الحاجة للأديان، ودون الحاجة للجم التناحر الطبقي و النزعة الرأسمالية. و مع تقدم الفكر السياسي وفكرة تبادل السلطة بالانتخاب الديمقراطي، ونشوء الثورات، سادت أوروبا، في القرن التاسع عشر، أجواء التفاؤل والأحلام والسرديات الكبيرة. ولكن لم يمر وقت طويل على هذا التحول، أو هذه الثورة العلمية والصناعية والسياسية المدهشة، حتى ابتليت بلاد الحداثة بجحيم حروب كونية( الاولى والثانية) طحنت عشرات الملايين، وتركت جروحا عميقة وآثارا مدمرة على المجتمع والأفراد في الجسد والروح، واحدثت هزة عميقة في منجزات الحداثة، مما أعاد طرح الاسئلة ذات الطابع الوجودي، في ميادين الفكر والفلسفة والادب والفن، التي أعادت النظر في طبيعة الانسان، والنفس الانسانية.

في زحمة الحياة وهمومها، يُغفل الناس هذا السؤال الوجودي، إذْ يستسلم بعضهم للقدر ولروتين الحياة، وبعضهم لا تتيح لهم هموم الحياة وحاجاتها اللانهائية، الضرورية والكمالية، الانشغال في هذا السؤال . وهو سؤال شغل، وينشغل فيه، عادة، مفكرون وفلاسفة، أو روائيون من ذوي النزعة الفلسفية، ومنهم من وضع نظريات حول الفلسفة الوجودية، أو منهم من ألف روايات دستوبية، تصف مجتمعا خياليا او مستقبليا فاسدا ومرعبا. وهذا النوع من الادب هو بمثابة إنذار لما يمكن أن يحصل في حالة استمرار الانهيار السياسي والاخلاقي وفساد النخب الحاكمة. ركزت تلك الادبيات على حرية الفرد، معتبرة اياه هو الذي يصنع المعنى لحياته وهو المسؤول عن خياراته.

لقد جاء تبلور الوجودية كتيار فلسفي، وهيمنته لعقود عدة في اوروبا ردا على ويلات الحربين العالميتين، وانتشار المذاهب الشمولية، كالفاشية والنازية والشيوعية الستالينية، التي اهدرت روح الانسان وقدست الجماعة على حساب حرية وكرامة الانسان ،الفرد. لقد افنت تلك الحروب الاستعمارية والداخلية والانظمة الشمولية ملايين البشر ونشرت الهلع والفزع في كل مكان.

في تلك الفترة، وقبل الانكشاف الكامل لبؤس النظريات الشمولية، رفض اليساريون الشيوعيون والاشتراكيون الانشغال بهذا السؤال، وركزوا جل برامجهم ونشاطهم على عملية التحرر الجماعية من أنظمة الاستغلال و الاستبداد، مهمشين حرية الفرد. بل بعضهم ذهب إلى اعتبار الفلسفات الوجودية تفكيراً مثاليا لا يؤتي نتيجة، أو مضيعة للوقت. ولكن اخفاق تلك النظريات والانظمة الشمولية دفع الكثيرين منهم الى هجر دوغمائيتهم، وتبني اشتراكية ديمقراطية انسانية.

جرت مراجعات كثيرة بعد الحرب العالمية الثانية، ووضعت اسس علاقات دولية جديدة، وصدر إعلان حقوق الانسان العالمي، ووضعت قواعد تمنع الابادة الجماعية والجزئية، خاصة بعد الابادة الجماعية التي نفذها الوحش الالماني النازي بحق ملايين اليهود، فقط لانهم يهود، ونُحت في حينه شعارٌ اخلاقي: "لن يتكرر ".

ولكنه لامر مذهل، ومرعب، أن تكرر نفس الجماعات والدول التي وضعت تلك القواعد، ماضيها الابادي والاسود في فلسطين، وفي قطاع غزة، عبر تنفيذ إبادة جماعية ومخطط لمحو شعب .

إن هذه الدول تعيد بذلك تذكير الاجيال الجديدة الاسس التي قامت عليها، اسس الابادة والمحو للشعوب غير الاوربية، تذكرها بعقليتها العنصرية الفوقية التدميرية. إن هذه الحقيقة المؤلمة، أي العجز او عدم الرغبة بإحداث قطيعة مع هذا الماضي الاجرامي، هو الضبط ما يجعل الانسان الفرد يعود الى دوامة الشعور بالعدمية والعبثية، في عالم يظهر وكأنه غير قابل للشفاء، فتنشأ امامه معضلة تتعلق بكيفية النجاة، وبـأي وسيلة، وهل هناك منظومة اخلاقية تصلح لوقايته من الانهيار الداخلي!

 

غزة والسؤال الوجودي

يحظى غالبيةالمتدينين، وخاصة المؤمنين منهم، بحصانة عالية، ضد هذا السؤال أو ما يترتّب عليه من شكوك في عقيدتهم التي توفر للمؤمن معنىً وملاذا، وتمنع الانهيار الداخلي والاستسلام. هذا الأمر ينطبق أيضا على أصحاب الرسائل الانسانية أو التحررية، من العلمانيين وغير الدينيين، الذين أبدى، ويُبدي الكثير منهم استعداداً وجهوزيةً فعلية ونفسية للنضال ودفع الثمن من أجل هدف نبيل. و تتفاوت قدرة البشر على التماسك والصمود في وجه الانهيار الداخلي، ونجد بعضاً منهم، كثيراً أو قليلا، قد جرفتهم دوامة هذا السؤال، بعد نفاذ مخزون المناعة الداخلية، وهذا أمر طبيعي وإنساني. وليس غريباً أن تجدَ العديد من أهالي غزة وهم الاكثر تديناً، يسألون، تحت وطأة هذا الإفناء والمحو الجسدي، وبعد كل هذا الخذلان العربي والاسلامي والعالمي: أين الله ! . وعندما يصل بالانسان المتدين، او الشخص شديد الإيمان، إلى طرح هذا السؤال يمكن تصور حجم وهول ما يختلج في داخله من وجع وألم. لقد قرأنا على وسائل التواصل الاجتماعي داخل غزة نقاشات بهذا الخصوص، وقرأنا ردود لإناس متدينين، ذوي ثقافة دينية واسعة، يردون على متدينين آخرين، وينشرون مواقف تحثّهم على التمسك بالايمان، بعضها كانت قاسية وأخرى كانت متفهمة. ولكن يمكن القول أن صمود غالبية الغزيين، في وجه جريمة إبادة جماعية غير مسبوقة في وحشيتها، ما كان ليتحقق لولا هذا الايمان الديني والوطني والانساني الوطيد، وهو يصفه الكثيرون بالاسطورة.

عندما يسأل أهالي غزة عن الله، يكون السؤال أساساً موجها للانسانية، موجها للذين يتسّيدون الامبراطوريات الامبريالية الابادية، والى الانظمة العربية الخاضعة للامبراطورية الامريكية الاوربية الصهيونية.

في هذا العصر ، عصر النزعة الاستهلاكية والفردانية، وانحسار الاخلاقيات لصالح الجشع والقوة الظالمة، قد لا نجد شعباً بهذا القدرة على التحمل الاسطوري كشعب فلسطين، مع أن الكثيرين منهم يرجوننا ألا نتعامل معهم كأبطال، بل كبشرٍ عاديين لم يترك لهم العالم ملاذا سوى الصمود والإيمان الديني، وأنهم بحاجة لعونٍ فعلي.

مرّت على الشعب الفلسطيني محناً رهيبة كثيرة، والتي أفنت أجيالاً منه، في خضم مواجهة حروب إسرائيل العدوانية، أو استبداد وإجرام أنظمة عربية ضد شعوبها وضد الشعب الفلسطيني. وأنتجت هذه المحن وهذه المواجهة الممتدة مع المشروع الاستعماري الصهيوني الابادي، أدبيات كثيرة تُعنى بالسؤال عن مسببات الهزائم المتكررة، وكيفية تفاديها، ومنها ماهو مهم وجذري، ومنها ماهو عام وشعاراتي وتعبوي ومفتقد للعمق والشمولية، ولكن تلك الاعمال النقدية الجذرية النوعية ظلّت قاصرة عن التحول إلى خطة إستراتيجية.

ولكن السؤال الوجودي لم يُطرح، أو يحضر، بالحدّة والقوة كما يُطرح اليوم لدى شعوب العالم عامة، وفي أوساط فلسطينيين بصورة خاصة. فالحرب ماكنة تلتهم البشر والحجر، وتصنع قصصا ومآسي، ويضمحل أمامها الانسان، بحيث لا يبقى في نظر الكثير من الناس أي هدف يستحق العيش من أجله. نحن اليوم في حالة حرب غير مسبوقة في وحشيتها، إذ أنّ من ينفذها هي أكبر قوة عسكرية على الارض، هي الامبراطورية الامريكية المتوحشة وحلفائها، ضد أصغر كيان على الارض، وأشدّ الناس فقرا وعوزا، و تُنفذ بوحشية تفوق الوصف، عبر البث الحي، و بطريقة سادية صارخة، يُوثق فيها القتلة انفسهم وهم مستمتعون بتفجير البيوت وإبادة الاطفال والنساء والكبار، دون أدنى وازعٍ أخلاقي أو إنساني. إزاء حرب همجية من هذا النوع، وفي هذا العصر ، القرن الواحد والعشرون، يقف الانسان المقهور ، والحرّ، ليس في فلسطين فحسب، بل في أرجاء الكون، مصدوماً ومصعوقاً، متسائلا كيف يمكن لكل هذا أن يحصل دون عقاب ودون أن يأتي منجدٌ، كيف يمكن أن لا يتعظ الانسان، أو الذين يتسيدون الدول، من دروس التاريخ!

ربما هذه الصدمة الكبرى لدى شعوب العالم وقواه التقدمية والانسانية، وهذا الشعور بالرعب من طبيعة النظام العالمي القاتل، وقاعدته الصهيونية، هو بالضبط ما حفّز تشكيل جبهة عالمية مدنية مناضلة، مجسدةً تقاطعية نضالية استثنائية في عمقها واتساعها، ونموّ وعيٍ كونيّ بضرورة إنقاذ البشرية من أنياب البرابرة الجدد. ومثلما تغلبت الشعوب في الماضي على مآسيها أو خففت منها، تؤمن الاجيال الجديدة بالقدرة ذات الحس المرهف بالظلم، على المضيّ في مسيرة استعادة الانسان، و مصرّة على محاصرة وعزل ومعاقبة القتلة. ففي مقابل انسان لا يتّعظ من التاريخ ولا يرتدع عن ارتكاب الفظائع، هناك إنسان مصرّ على عدم التخلي عن إنسانيته وأخلاقياته، وعلى هدفه النبيل في التخفيف من آلام الحياة.

بهذا المعنى يتحدّى شعب فلسطين، والحركات الشعبية العالمية الفراغ الوجودي، من خلال بلورة رؤية كونية تحررية في مواجهة الهمجية.