وصلت الأزمة، التي تعصف باسرائيل والصراع بين أجنحة نظامها السياسي على ما يسمى ب"هوية الدولة وطابعها الديمقراطي"، إلى مرحلة قد تخرج فيها عن السيطرة، واحتمال الانزلاق نحو حرب أهلية كما حذر من ذلك الرئيس السابق للمحكمة العليا أهارون باراك . فحكومة تل أبيب بزعامة نتنياهو تعتقد أنها على وشك تحقيق الحلم الصهيوني بحسم الصراع الوجودي ، من وجهة نظرها، بتصفية القضية الفلسطينية، وهي ترى أن الفرصة ماثلة أمامها لبسط، ليس فقط سيادتها على الضفة الغربية والتطهير العرقي لأهل غزة والضفة ، بل وبسط قوانينها على مجمل نظام الحكم في اسرائيل. فكلاهما وجهان لعملة واحدة نحو إنشاء اسرائيل الكبرى، ليس فقط على كامل أرض فلسطين التاريخية، بل وبإخضاع دول المنطقة برمتها .
الاندفاع العنصري لاستكمال ما أخفقت به الحركة الصهيونية خلال نكبة عام 1948 من تطهير عرقي شامل ، يتصاعد بصورة ملحوظة بعد نجاح اليمين المتطرف في تدمير مسيرة التسوية، سيما بعد تمكُّنه من اغتيال رابين، لوضع حد للأسئلة الجوهرية في تلك المسيرة، والتي لم يجرؤ حتى رابين وحكومته من الإجابة عليها، والمتعلقة بحق الشعب الفلسطيني في تقرير مصيره وبناء دولته المستقلة على الأرض المحتلة منذ حزيران 1967.
المعضلة، وربما الاستعصاء في أزمة نظام الحكم الاسرائيلي جوهرها الطبيعة العنصرية للفكر الصهيوني، حيث الإجماع القومي على رفض الحقوق الوطنية للشعب الفلسطيني، والوهم بإمكانية بناء وصون نظام ديمقراطي على أسس عنصرية، وفقا لقانون القومية . يغذي هذا الوهم ما لحق بالحركة الوطنية الفلسطينية من وهن حد التلاشي، بما يُمَكِّن من حسم الصراع و اجبار الفلسطينيين على الرحيل، الأمر الذي طالما شكل حجر الزاوية للمشروع الصهيوني منذ قيام الدولة على أنقاض الشعب الفلسطيني وحقوقه الوطنية، بما لا يستثني رؤية بعض اتجاهاته "المعتدلة" التي لم تنظر للتسوية أكثر من اجتهاد لمعالجة الخطر الديمغرافي الفلسطيني على مستقبل اسرائيل .
ذلك يؤكد أن هذه الأزمة، وما يسمى بالصراع على هوية الدولة، سيظل يدور في حلقة مفرغة وعلى الأغلب لصالح الفاشية الجديدة، ما لم تحسم الاتجاهات الأخرى في هذا الصراع موقفها من مسألة الاحتلال، والاعتراف بحق تقرير مصير الشعب الفلسطيني، وتنخرط في عملية مزدوجة جوهرها إنهاء الاحتلال، والتخلص من الطابع العنصري للدولة، الأمر الذي يفتح الباب لحل تاريخي لهذا الصراع المزمن سواء في إطار دولة فلسطينية مستقلة كاملة السيادة على حدود 1967، أو دولة ديمقراطية تنبذ التمييز العنصري على أي أساس كان.
في المقابل، وبينما تمتلك اسرائيل أدوات اللعبة الديمقراطية والاحتكام للرأي العام ، بما يحد من الانزلاق نحو الخطر على بقاء الدولة، وفي مقدمة هذه الأدوات الانتخابات الدورية، والالتزام بنتائجها، فإن الحالة الفلسطينية تعيش حالة من التفكك غير المسبوق، الأمر الذي يزيد من فتح شهية اليمين الفاشي الصاعد للمضي بمخططاته متغذياً من هذه الحالة المتآكلة. فمنذ أن نجحت الانتفاضة الأولى ذات الطابع الشعبي الديمقراطي العميق، في احداث شرخ في المجتمع الاسرائيلي ازاء كلفة استمرار الاحتلال والسيطرة على الشعب الفلسطيني، وتفعيل سؤال مدى ديمقراطية اسرائيل ومفهوم الحرية لديها، في وقت تنخرط الأغلبية الساحقة لمجتمعها في مصادرة حرية شعب آخر و تُنَكِّل به. منذ ذلك الحين وظفت اسرائيل كل إمكانياتها لاحتواء هذا التحوُّل، بدلاً من استخلاص عبره بالخلاص من عبء الاحتلال على الشعبين.
في هذا السياق، و رغم اتضاح معالم فشل التسوية وأهداف اسرائيل الحقيقية منها، لجهة اقتصارها على احتواء ما حققته الانتفاضة من إنجازات، استمرّت منظمة التحرير في رفض اجراء مراجعة كفيلة باستنهاض مجمل الطاقات الفلسطينية وتوحيدها في إطار مؤسسات الوطنية الجامعة. واستمرت في نهج الاسترضاء وتقديم تنازلات مجانية، دون الالتفات لبناء مؤسسات قادرة عل تلبية احتياجات الناس وتعزيز قدرتهم على الصمود .وقد جاء الانقسام كنتيجة مأساوية لغياب استراتيجية عمل وفق القواسم المشتركة، ومتطلبات الربط الدقيق بين مهمات التحرر الوطني والبناء الديمقراطي، ليصب ذلك كله في مجرى استراتيجية اسرائيل لمنع قيام دولة فلسطينية، سواء بعزل غزة عن الكيانية الوطنية تارة، أو محاولة إبادة أهلها وتدمير عناصر الحياة فيها تمهيداً لتهجيرهم كما يحدث اليوم تارة أخرى.
على مدار أعوام الانقسام الماضية جرت في النهر مياه غزيرة وفاضت دماء عزيزة، وبعد أن فشلت كل محاولات رأب الصدع، وما تلاها من مخططات التصفية والإبادة المستمرة، نجحت القوى السياسية في بلورة ما بات يعرف بإعلان بكين، والذي كان وما يزال يشكل حجر الزاوية للخروج من عنق الزجاجة، و وضع حد لفشل الرهان على مسار التسوية من ناحية، والكلفة الباهظة وغير المحتملة جراء المغالاة في بعض أشكال العمل العسكري من ناحية أخرى .
نحن في مأزق تاريخي، بينما الابادة ومخططات الضم تسيران على قدم وساق، ولن يكون حل هذا المأزق و التصدي لمخاطره باستمرار اللهاث وراء وهم وسراب تسوية غير متوفر الحد الأدنى من شروط تحقيق أهدافها، ولا بوهم انتظار تصدع المجتمع الاسرائيلي من تلقاء ذاته بفعل أزمته التاريخية. فالأولوية التي لا يعلو عليها شئ هو اعادة بناء وتجديد دماء الحركة الوطنية الفلسطينية ونظامها السياسي دون احتكار أو إقصاء أو تفرد، فالتحكم بالمصير الوطني ليس ملكية خاصة، ولا بديل عن الوحدة والديمقراطية التوافقية لحين اجراء الانتخابات العامة الشاملة.
السؤال المطروح على الشعب الفلسطيني بكافة قواه السياسية والاجتماعية ومختلف المبادرات والحراكات الشعبية التي ما زالت تنبض بالحياة، وفي ظل استمرار إدارة الظهر للتوافق الوطني، هو : ما هي مسؤولية كل واحد منا لرص الصفوف في جبهة وطنية عريضة تفرض إجماعاً وطنياً وشعبياً لتنفيذ اتفاق بكين، آخذين بالاعتبار أن النجاح في هذه المهمة الوطنية الكبرى يستوجب الوقوف على أسباب فشل أو تعثر معظم المبادرات التي حاولت القيام بهذه المهمة التاريخية لاستعادة دور ومكانة منظمة التحرير الفلسطينية باعتبارها الجبهة الوطنية العريضة التي تضم كافة القوى السياسية والاجتماعية والشخصيات الوطنية، وتصون الاجتهادات الفكرية والتعددية السياسية ، كي تكون فعلياً الممثل الشرعي الوحيد لشعبنا وقائدة نضاله الوطني والديمقراطي، ومرجعية وطنية لحكومة وفاق انتقالية برنامج عملها الأساسي ضمان وقف الحرب ومنع التهجير، وشعارها الأول أن البقاء مقاومة .