الإثنين  07 نيسان 2025
LOGO
اشترك في خدمة الواتساب

الزمن البربري للعالم المتمدن

2025-04-06 07:27:23 PM
الزمن البربري للعالم المتمدن

 

عندما كتب محمود درويش قصيدته الفذة "حالة حصار" متسائلا: "مَن مات ...مَن؟" لم يقصد حينها البحث عن جواب يُعَيّن من خلاله اسم الضحية المقتولة أو معرفة اسمها، فقد أردف مكتفيا بتحديد أنها: "الشهيدة، بنت الشهيدة، بنت الشهيد، وأخت الشهيد، وأخت الشهيدة، كِنة أم الشهيد، حفيدة جد الشهيد، وجارة عم الشهيد..إلخ..إلخ"، حيث تصبح المفعولية بالفلسطيني وصفا متكاملا لتحديد هويته، والتي تُشكلها حالة التقتيل المستمرة التي يعيشها منذ 76 عاما، حتى صارت الصفة أو الحالة هي التعريف الذي يغني عن التعيين أو التحديد، فالفلسطيني إما شهيد أو طريد أو لاجئ أو أسير. وهذا الوصف لدرويش، وعلى بلاغته السهلة الممتنعة، لا تُتيح لنا إلا التفكير في الذات/ الهوية من خلال الزمن الذي تعيشه فتُشتق منه.

ولأن زمن الفلسطيني لا يمكن التفكير به كحد متتالٍ خطي الاتجاه ومتسلسل، وإنما تتراكب في الأزمنة بماضيها، وحاضرها، ومستقبلها، مع ديمومة قوية للماضي فيه، وبسطوة ساطعة على صيغ الأزمنة الأخرى، فإن الزمن الوحيد القابل للقياس كزمن لتشكيل الهوية هو ذلك الزمن الذي بتنا نُعرّفه كفلسطينيين بـ "زمن الإبادة المستمر". ولأن امتداد هذا الزمن، بكل ما فيه من لحظات انقطاع وتواتر وتقاطعات، تشكل كتلة زمنية واحدة، فإنه يمكن التفكير فيه بصيغة أدق عبر عنها المفكر الكاميروني أشيل ميمبي باعتباره "عصرا" وليس "حقبة زمنية". وذلك بما يعنيه من كونه يشمل مددا متعددة تضم انقطاعات وانتكاسات وجمودا وتقلبات متمفصلة، يتخلل بعضها البعض الآخر، ويكتنف بعضها بعضا، بحيث تتشابك أو تتراكب هذه الأزمنة لتشكل "عصر الاستعمار" و"عصر ما بعد الاستعمار".

أما الجميل في التقاطع ما بين درويش وميمبي فإنه ذلك الاتفاق على نقد زمن الآخر "المتمدن"، فدرويش الذي أضاف بعد تعيين الضحية تقريعه للمجتمعات "المتحضرة" قائلا إنه بعد كل هذا الموت فإنه: "لا شيء يحدث في العالم المتمدن، فالزمن البربري انتهى"، إنما تتصادى معه مقولة ميمبي التي تستكمل المقولة الدرويشية بتحديد معالم زوال "الزمني البربري" بحالة من الإحلال القائمة على زوال "الأخلاق" و "القيم" وليس مجرد "موت الإله" أو "الإنسان" وحسب، وإنما بإزالة كل نقطة مرجعية ومبدئية، فلا تكون حينئذ، وعلى حد تعبير درويش، من أهمية لهوية الضحية، أو من أهمية للبحث عن الحقيقة، فالضحية عادية "والضحية ...مثل الحقيقة....نسبية".

وعندما تصبح الضحية عادية، والحقيقة نسبية، فإن من بين ما يعنيه ذلك امتلاك المقدرة على تشكيل الاثنين بافتراض المقدرة على التحكم بزمنيهما معا، بما يجعل من "العالم المتمدن" إله هذا العصر، وإنسانه الأعلى، لكنه "إله" يأخذ شكلا متوحشا، أو هو "إنسان" بل "كائن" بربري أكثر من الضحية التي وسمها بالتوحش كمسوغ لقتلها. وسيكون الزمن العالمي السائد هو "الزمن البربري للعالم المتمدن"، والذي يرعى علانية "زمن المستعمر" بما هو زمن "حالة الطبيعة" الفجة، حيث بالإمكان فعل كل شيء والحصول على أي شيء بأي طريقة حتى لو كانت بالمفاخرة بالقتل والتهجير والإبادة، والتي يؤسِّس لها بصيغة الحق، أي الحق في زمن الآن ومكانه، والحق في التصرف في البشر، وفي حياتهم: نجاتهم أو مماتهم، والأهم الحق في تشكيل التاريخ وإعادة بدئه أو كتابته من جديد وفق لغة زمن العالم "المتمدن" المسيطر على العصر.

فعندما أعلن ترمب بوقاحته اللصيقة به تحويل غزة إلى "ريفيرا الشرق الأوسط" عبر تهجير أهلها، ومن ثم إعطاء الضوء الأخضر لنتنياهو لإستئناف حرب الإبادة في القطاع، لم يكن أي منهما يُريد أن يُتح للغزيين إبان فترة إدعاء "وقف إطلاق النار" زمنا للنجاة، فلا يمكن للضحية أن يكون لها زمن داخل الحياة أو داخل "الزمن البربري للعالم المتمدن". وكل ما امتلكه الغزيون خلال تلك الفترة هو زمن التقاط الأنفاس استعدادا للموت من جديد، ولكن هذه المرة عليهم أن يتقنوا الموت، وأن يجعلوا من موتهم أكثر مفاجأة بعد أن تبلدت مشاعر الجمهور وملت من روتينية التقتيل التي لم تعد كافية للإثارة، عليهم أن يجعلوا من موتهم فنا لا يُصدق، وخارج نطاق المعقولية، حتى يكون بالإمكان اجترار الكلمات الميتة خطابيا واستصلاحها لملئ بيانات الإدانة الصامتة، وضخ شيء من الدماء في العُنَّن من القادة.

والأكثر من ذلك، أن على الغزيين أن يجعلوا من موتهم إعلانا ترويجيا لسيادة وسيطرة "الزمن البربري للعالم المتمدن"، إذ من غير المتفرض بهم أن يناقشوا في محدودية نجاتهم، وألا ينظروا في إمكانياتها، بل عليهم أن يحتفوا بلا محدودية مقدرة المستعمر وحلفائه على ممارسة التطهر الذاتي بتطهيرهم عرقيا. إن أجساد الغزيين اليوم هي قرابين هذا العصر  الذي تصاغُ فيه القيم الإنسانية من جديد على أساس التوحش الروحي والمادي ليصير أفقا وحيدا للقيمة غير المتفاوض عليها وغير القابلة للمناقشة أو الإدانة. ولن يعي الصامتون، وغير المبالين، أو المثقفون، أو الأدباء، والمؤرخون، أو الساسة والقادة، ولا الشعوب الخانعة، حجم ما ستعنيه غزة لمعاني الإنسانية وقيمها إلا بعد أن يستكمل التوحش صياغة قيمة الإبادة لتكون قيمة القيم، والمرجعية الأولى لعلاقات القوة  في هذا "الزمن البربري للعالم المتدن"!