في سياق استئناف حرب الإبادة الإسرائيلية على قطاع غزة التي بدأت في السابع من أكتوبر 2023، برز تطور لافت في المشهد الداخلي الفلسطيني يوم 25 آذار/مارس 2025، تمثل في اندلاع تظاهرات شعبية في شمال قطاع غزة، لا سيما في بيت لاهيا، قبل أن تنسحب لاحقًا إلى مناطق أخرى من القطاع. وقد عبّر المحتجون من خلال شعاراتهم عن رفضهم لاستمرار الحرب وما خلّفته من كوارث إنسانية، حاملين شعارات "أوقفوا الحرب" و"نريد أن نعيش". فيما تحوّلت بعض هذه الشعارات إلى مطالب سياسية صريحة، وُجّهت إلى حركة حماس التي تتولى إدارة القطاع منذ عام 2007، تطالبها بالتنحي عن الحكم.
حظيت هذه التظاهرات باهتمام واسع من قبل وسائل الإعلام الإسرائيلية، التي سارعت إلى تغطيتها وتحليل دلالاتها السياسية، في سياق الحرب المتواصلة منذ أكثر من ثمانية عشر شهرًا، وطرحت تساؤلات بشأن انعكاسات هذه التظاهرات على مكانة حماس ومستقبل سيطرتها على القطاع.
يسعى هذا المقال إلى تحليل الكيفية التي تناول بها الإعلام الإسرائيلي تظاهرات غزة، وذلك من خلال رصد أبرز العناوين والتقارير والتحليلات التي نُشرت في وسائل الإعلام الإسرائيلية، واستعراض اللغة والخطاب المستخدمين في تغطيتها.
اللغة والخطاب الإعلامي
اتسمت التغطية الإسرائيلية للتظاهرات التي اندلعت في قطاع غزة باستخدام خطاب تقليدي يرسّخ الرواية الإسرائيلية الرسمية، إذ جرى تصوير حركة حماس بوصفها تنظيمًا إرهابيًا، مع اتهامها بممارسة العنف والقتل، ليس فقط تجاه الإسرائيليين، بل أيضًا ضد المعارضين الفلسطينيين داخل القطاع.
في هذا الإطار، عنونت صحيفة يسرائيل هيوم أحد تقاريرها يوم 29 آذار 2025 بالقول: "الاحتجاج في غزة: حماس تطلق حملة لقمع المظاهرات"، فيما نشرت القناة 14 بتاريخ 27 آذار 2025 خبرًا يستعرض التظاهرات حمل عنوان: "ضد حماس ولكن ليس مع إسرائيل".
في المقابل، تميزت تغطية صحيفة هآرتس باستخدام لغة مختلفة، حيث مزجت بين اتهام حماس والتطرق للحرب على غزة. فقد عنونت الصحيفة أحد مقالاتها بتاريخ 25 آذار/مارس 2025: "مئات تظاهروا في القطاع ضد الحرب وحماس"، فيما نشرت في 27 آذار مقالًا بعنوان: "الإسرائيليون يشجّعون التظاهرات في غزة، لكنهم يقوّضون فرص نجاحها". أما موقع جلوبس الاقتصادي، فقد عنون أحد تقاريره بتاريخ 26 آذار/مارس 2025 بالقول: "غزة كلها تنتفض – تصاعد الغليان ضد حماس".
يتبيّن من خلال هذه التغطيات أن الخطاب الإعلامي الإسرائيلي متماهي مع الرواية الإسرائيلية الرسمية، حيث يعرض التظاهرات كحالة رفض لحماس فقط، لكن مع إغفال السياق الأوسع المتعلق باستمرار حرب الإبادة الإسرائيلية وما خلّفته من كوارث إنسانية، والحصار الممتد منذ أكثر من 15 عامًا المفروض على غزة.
ثنائية الضحية والجلاد
سعى الإعلام الإسرائيلي إلى ترسيخ صورتين متقابلتين لسكان قطاع غزة: الأولى تصور المتظاهرين كضحايا لقمع داخلي تمارسه حماس، والثانية ترسم الحركة نفسها كسلطة معادية وقمعية. وبينما بدت التغطية وكأنها تتعاطف مع المتظاهرين، فإن هذا التعاطف جاء مشروطًا ومؤطرًا بمنطق استعماري، لا إنساني. فقد صُوّر المتظاهرون كسكان مقهورين تحت حكم "عدو إسرائيل"، دون أي إقرار بأنهم أيضًا ضحايا مباشرين لحرب إبادة غير مسبوقة وحصار طويل الأمد تفرضه إسرائيل.
أي أن الصورة العامة التي رسمها الإعلام الإسرائيلي للمحتجين ظلت محصورة في كونهم "ضحايا لحماس أولًا"، حيث تم التركيز على شعارات مثل "نعم للسلام، لا للحرب المستمرة"، والتي وُظّفت لتعزيز خطاب يصوّر الغزيين كرافضين لاستمرار القتال، متجاهلة شعارات أخرى تطالب بوقف الحرب والمجاعة التي تتحمّل إسرائيل مسؤولية مباشرة عنهما.
في المقابل، فإن صورة حماس في التغطية الإعلامية الإسرائيلية حافظت على سمة التجريم المطلق. فحماس صُوّرت كعدو يشكّل تهديدًا أمنيًا متواصلًا، وفي الوقت ذاته كسلطة قمعية تضطهد شعبها. وفي هذا السياق، وصفت "هيئة البث الإسرائيلية" التظاهرات بأنها بمثابة "الربيع الغزي"[1] في محاولة لإضفاء طابع ثوري على التظاهرات.
الأطر السردية في التغطيات الإخبارية
اتّسمت التغطية الإخبارية الإسرائيلية للتظاهرات في قطاع غزة بتبني مجموعة متنوعة من الأطر السردية، التي عكست إلى حد كبير منظور المؤسسة السياسية والأمنية الإسرائيلية للحدث. فقد لجأت وسائل الإعلام إلى انتقاء جوانب محددة من التظاهرات وإعادة صياغتها ضمن أطر تفسيرية تدعم السردية الإسرائيلية الرسمية وتوجّه الرأي العام بما يتماشى مع مصالح الدولة. ويمكن تصنيف أبرز هذه الأطر على النحو الآتي:
أولًا: نجاح إسرائيل في إضعاف حماس
بعد اندلاع التظاهرات، سارع رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو إلى التعليق عليها بوصفها دليلاً على نجاح السياسة الإسرائيلية في قطاع غزة، وأكد أن إسرائيل مصرة على تحقيق جميع أهداف الحرب بما فيها القضاء على القدرات العسكرية وحكم حماس، استعادة جميع أسرى، وضمان ألا تُشكّل غزة تهديدًا مرة أخرى.[2]
في السياق ذاته، تبنّت صحيفة يديعوت أحرونوت موقفًا مشابهًا، حيث أشارت إلى أن قدرة حماس على إحكام سيطرتها على قطاع غزة آخذة في التآكل، ووصفت الوضع بأنه "قبضة حماس الهشة على القطاع". وأضافت الصحيفة أن الحركة تواجه صعوبات متزايدة في فرض الانضباط داخل صفوفها منذ انهيار اتفاق وقف إطلاق النار، لا سيما في ظل تزايد وتيرة الاحتجاجات واتساع رقعتها.[3]
ثانيًا: حالة السخط واليأس في غزة
اعتمدت بعض المنصات سردية مغايرة تقريبًا، فمثلًا صحيفة هآرتس سلّطت الضوء على البُعد الإنساني والمعيشي للتظاهرات في غزة، مبرزةً إياها كصرخة مجتمعية في وجه الحرب والدمار وسوء الإدارة على حدّ سواء.
تجلّى هذا التوجه في عنوان خبر نشرته الصحيفة عبر موقعها الإلكتروني بتاريخ 25 آذار 2025: "مئات تظاهروا في القطاع ضد الحرب وحماس: نريد أن نعيش مثل جميع شعوب العالم". وبحسب ما ورد في متن الخبر، فإن التظاهرات اندلعت بشكل عفوي نتيجة شعور عام باليأس لدى سكان القطاع إزاء الواقع القائم. ورغم التأكيد على أن إسرائيل هي الجهة التي تشن الهجمات والغارات، كما أن حماس تتحمل جزءًا من المسؤولية أيضًا.[4]
في هذا الإطار، يُقدَّم المتظاهرون كضحايا مزدوجين، من جهة يتعرضون لحرب إسرائيلية حصدت أرواح عشرات آلاف من الضحايا، ومن جهة أخرى، يرزحون تحت وطأة سلطة محلية عمّقت معاناتهم الإنسانية.
ثالثًا: الشك والمناورة السياسية
مقابل القراءة التي قدّمت التظاهرات في قطاع غزة بوصفها حراكًا احتجاجيًا أصيلًا ضد حكم حماس كما يذهب "معهد دراسات الأمن القومي" الذي يرى أن مشاعر الغضب والرفض تجاه حماس منتشرة في مختلف أرجاء القطاع بنسبة 100%.[5] وهو ما يتقاطع مع تقدير مركز المعلومات للاستخبارات والإرهاب الذي يرى في هذه الاحتجاجات انعكاسًا لمعاناة حقيقية يعيشها المجتمع الفلسطيني في غزة، بما يجعلها تحركات تلقائية وغير موجهة.[6] برز اتجاه تحليلي مغاير يعتبر هذه التظاهرات أشبه بمناورة سياسية مدبّرة من داخل الحركة نفسها.
فوفقًا لأصحاب هذا الرأي، من المستغرب أن تندلع تظاهرات بهذا الحجم والتوقيت في ظل استمرار الحرب والقصف، وهو ما يثير الشكوك حول طابعها العفوي. بل ويذهب هؤلاء إلى أن حماس قد دفعت هذه التظاهرات عمدًا، بهدف توظيفها كأداة سياسية لامتصاص حالة الاحتقان الشعبي، وتخفيف حدة الغضب الجماهيري تجاه استئناف الحرب الإسرائيلية على غزة.
مثالًا على ذلك، يرى محلل قناة i24NEWS تسفي يحزقيلي أن هذه التظاهرات ليست تهديدًا لحماس بل أداة بيدها، ترسل من خلالها إشارات مقصودة إلى العالم بأنها مستعدة للقبول بتغيير شكلي في الحكم لا يمس جوهر سلطتها.[7]
كذلك، يرى أيضًا أن هذه الرسائل تهدف إلى الحيلولة دون تطبيق سيناريوهات إخلاء أو ترحيل سكان القطاع، كما تطرحها بعض الخطط الإسرائيلية والغربية، وعلى رأسها خطة ترامب. ومن هنا، فإن التظاهرات وفق هذا التصور لا تعبّر عن معارضة فعلية بقدر ما تُوظَّف كجزء من استراتيجية خطابية وسياسية تديرها حماس بعناية.
ختامًا، يتضح أنه رغم المحاولات الإسرائيلية لتوظيف التظاهرات في قطاع غزة لصالح تدعيم روايتها الرسمية وترسيخ حالة الانقسام الداخلي الفلسطيني من خلال أسلوب تغطيتها لهذا الحدث، فإن سياستها الميدانية تسير في اتجاه معاكس تمامًا. إذ تعمل في الواقع على تكثيف الضغط المباشر على سكان القطاع، عبر استئناف حرب الإبادة وإحكام الحصار، كذلك الاستعداد لتوسيع العمليات البرية في أمكان محددة بالقطاع، كما أقر المجلس الوزاري الإسرائيلي المصغر في اجتماعه يوم السبت 29 آذار 2025.
[1] هيئة البث الإسرائيلية "كان". "الربيع الغزي؟ احتجاجات غير مسبوقة في غزة ضد حماس: 'لا يمكننا العيش تحت حكمهم"، 26 آذار 2025، تاريخ الاطلاع 3 نيسان 2025. https://youtu.be/87Ws5CCMTWc?si=PyIX77q8yMPzzZx4
[2] قناة الكنيست، "نتنياهو: المظاهرات ضد حماس في غزة تُثبت أن سياستنا صحيحة"، 26 آذار 2025، تاريخ الاطلاع 3 نيسان 2025 https://x.com/KnessetT/status/1904837964049334558
[3] عِيناف حلبي، "تجددت التظاهرات في غزة، وحماس تدّعي: 'إسرائيل وأبواقها خلفها'"، يديعوت أحرونوت، 26 آذار 2025، تاريخ الاطلاع 3 نيسان 2025، https://www.ynet.co.il/news/article/r1pvzxb61e
[4] جاكي خوري، "مئات تظاهروا في القطاع ضد الحرب وحماس: 'نريد أن نعيش مثل جميع شعوب العالم'"، هآرتس، 25 آذار 2025، تاريخ الاطلاع 3 نيسان 2025، https://2u.pw/hJliz
[5] أوريت برلوف. "الاحتجاجات في غزة: الغضب من حماس لم يعد على الهامش"، معهد دراسات الأمن القومي (INSS)، 27 آذار 2025، تاريخ الاطلاع 3 نيسان 2025 https://2u.pw/1HeMI
[6] يعنكي فربر. "بعد ثلاثة أيام من التظاهرات في غزة، خفتت حدتها، لكن الاحتجاج قد يتجدد"، موقع بحدري حريديم، 31 آذار 2025. تاريخ الاطلاع 3 نيسان 2025. https://www.bhol.co.il/news/1690511
[7] تسفي يحزقيلي، "تظاهرات ضد حماس؟ إنها مبادرة من التنظيم"، القناة 7، 28 آذار 2025، تاريخ الاطلاع 3 نيسان 2025 https://www.inn.co.il/news/665106