نظرة سريعة حول ما يُمكن تسميته بمظاهر انفصام المشاعر إزاء ما يجري في غزة، ولاحقاً في شمال الضفة، فإنها تكشف عن أسئلة كبرى لا يمكن إشاحة النظر عنها. فمقارنة انخراط القطاعات الاجتماعية المختلفة من شعبنا في مدن الضفة الغربية فيما يمكن تسميتها بالحملة أو الانتفاضة الشعبية الكونية لوقف الحرب انطلاقاً من المسؤولية الأخلاقية لشعوب العالم، تظهر مدى التدني في مستويات مثل هذا الانخراط بالقياس مع المدن العالمية الأخرى بما فيها قليلة السكان .
لم يأتِ هذا الانفصام مفاجئاً، كما أن انحدار مستوياته لن يكون مستغرباً، وكأن ما تتعرض له غزة من حرب عدوانية متواصلة طوال 555 يوماً يجرى في كوكب آخر، وليس فقط لشعب آخر. فالفعاليات الشعبية في مدن الضفة مقارنة، ليس فقط بحجم المذابح والإبادة ضد شعبنا في القطاع ، بل وبما تنذر به مخططات الاحتلال ضد الوجود الفلسطيني في الضفة الغربية ذاتها، والتي تتعرض يومياً لمخططات اجتثاث معلنة، يؤكد قصوراً يتجاوز ما جرى للحركة الوطنية من تفكك.
فمقارنة التحركات الشعبية في أي مدينة أوروبية، والتي تتواصل فيها مسيرات حاشدة على الأقل أسبوعياً "كل يوم سبت أو أحد"على مدار ثمانين أسبوعاً متواصلاً ، تظهر حقيقة الواقع، الذي يشعل انذاراً أحمراً شديد الخطورة ازاء ما يجري من تحولات خطيرة في المشاعر الجمعية لدى شعبنا في مختلف مناطق تواجده، وهو ما يُلقي بظلاله ليس فقط على وحدة أدوات النضال الوطني، بل على واقع و مدى وحدة وتماسك النسيج المجتمعي ذاته، والذي سبق وأظهر أقصى درجات التماسك والتضامن في نضاله الموحد طوال سنوات مواجهة الاحتلال، التي بلغت ذروتها على كافة المستويات الكفاحية والاجتماعية إبان الانتفاضة الشعبية الكبرى عام 1987، والتي ما زالت دروسها ماثلة وتشكل نموذجاً لا بد من استلهام جوهره مجدداً .
هنا يبرز السؤال الأساسي، ما الذي جرى منذ بداية التسعينيات، حيث إنشاء أول سلطة وطنية فلسطينية وحتى اليوم ؟ يبدو أنه الحصاد المر جراء فشل الرهان على مسار تسوية أوسلو، حيث يتحمل الاحتلال المسؤولية الأولى عن ذلك، دون إغفال التواطؤ الدولي مع منظومة الاحتلال والاستيطان، إلا أنه أيضاً يكشف فشل منظمة التحرير الفلسطينية في بناء سلطة وطنية تعبر عن وحدة الهدف والمصير الوطنيين، من حيث جوهرها كرافعة لتعزيز الصمود في معركة تحرر وطني طويلة الأمد، وما كان يستدعيه ذلك من ربط دقيق بين مهام التحرر الوطني من الاحتلال ، وبين متطلبات البناء الديمقراطي لمجتمع الصمود القادر على سد الثغرات، وتعظيم ما يمكن أن يتحقق من إنجازات، وجوهر هذا الربط المفترض هو العدالة الاجتماعية والتوزيع العادل للموارد على شحتها، وكذلك التوزيع العادل لمتطلبات مواجهة استراتيجيات القمع ومصادرة ونهب الأرض والموارد الطبيعية التي لم تنفك حكومات الاحتلال المتعاقبة من تنفيذها على مدار السنوات العجاف من عقود وهم التسوية .
وقد زاد الانقسام الطين بلة، سيما بعد الفشل المزمن في مدى الجدية لاحتوائه، والتصدي لتداعياته الخطيرة، والتي كانت تتراكم أمام أعيننا يوماً تلو الآخر، ملحقة أفدح الأضرار، ليس فقط على المصير الوطني، بل وعلى الأحوال المعيشية للناس، وباتت هذه الأضرار تغرز أنيابها في النسيج المجتمعي، ونشوء ما يُمكن تسميته بحالة الاغتراب بين "مجتمعي الضفة والقطاع". وبدلاً من التصدي لهذه المظاهر الخطيرة على المجتمع الفلسطيني ومدى تماسكه وقدرته على مواجهة التحديات الوطنية الكبرى، فقد اتسعت الهوة بعد السابع من أكتوبر، جراء تباين المواقف ليس فقط حول مبرراته وجدواه، بل وانزلاقها نحو تباينات ازاء متطلبات مواجهة تداعيات وحشية العدوان، التي باتت منذ اليوم الأول تتضح كونها إبادة جماعية ومخططات تطهير عرقي أُعد لها سلفاً بعناية. فإذا كان من مشروعية للتباين حول السابع من أكتوبر وما قد يولده من تبعات، فلم يكن مشروعاً على الإطلاق، بل يكاد يكون تخلياً عن متطلبات المسؤولية الوطنية، وعن الحد الأدني من المسؤولية الأخلاقية، عندما ينبري البعض في تحميل المقاومة مسؤولية الابادة المستمرة، بما يفرزه ذلك من نتائج خطيرة سواء على وحدة خطاب قوى وحركات التضامن الدولي مع الشعب الفلسطيني لوقف حرب الابادة، أو وحدة المشاعر الجمعية ازاء مسؤلية الاحتلال عنها ، إن لم يكن ذلك تبرأة غير مباشرة له بغض النظر عن نوايا أصحابها.
في هذا السياق لا يمكن النظر لما جرى و يجري من مظاهر اجتماعية تبرز انفصاماً عن واقع الابادة، دون التدقيق في أسبابها والتصدي الجرئ لمعالجة جذورها السامة والخطيرة على المستقبل الوطني برمته. الناس في الضفة يعيشون في واقع مأزوم ومتعب منذ سنوات طويلة: اقتصاد هش، بطالة، قمع، فقدان الأمل، وغياب مشروع وطني جامع. هذا يولّد ما يُشبه “الخدر الجماعي”، حيث يفقد الناس القدرة على الاستجابة للقضايا والأحداث الكبرى بنفس الحساسية المطلوبة . حين يشعر الإنسان أن لا قدرة له على الفعل، يلجأ لا شعوريًا إلى تجاهل الواقع أو تقليصه عاطفيًا كآلية دفاع. هذا ليس قسوة، بل هو رد فعل وجودي على العجز . وحتى لو صح القول أن الإحجام عن الانخراط في فعاليات احتجاجية يعود للتخوف من تبعات الاحتجاج على المحتجين، فهذا لا يفسر اطلاقاً ولا يبرر رعاية مناسبات ومظاهر احتفالية أو المشاركة فيها.
إن تفكك المشروع الوطني بين مسيرة تسوية فاشلة، أو مقاومة عالية الكلفة ، لا يلقي بظلاله على تفكك الحركة الوطنية والاستفراد الاحتلالي "بجناحيها" المتموضعين على ضفتي الانقسام فحسب، بل ويترك نُدباً عميقة على مدى وحدة وصلابة تماسك النسيج المجتمعي ذاته. ولهذا فإن الدعوات المتكررة لاستعادة الوحدة، والتي يتشدق البعض بأنها دعوات منفصمة عن واقع الحال، وأنها مستحيلة التحقق، أو أنها كمن يصرخ في صحراء التيه لتبرأة الذات من مسؤولية التلكؤ في إنجازها ، هي، وهي فقط المدخل الأول لمعالجة كل التداعيات السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية، و ما ولده غياب التصدي الجاد لها من تيه يكاد يعصف بالجميع، ومعهم مصيرنا الوطني برمته. فالمنفصمون عن الواقع ليسوا دعاة استعادة وحدة مؤسسات الوطنية الجامعة، والحريصين على استنهاض كامل طاقات شعبنا لوقف الابادة ومخططات الضم والتصفية، بل أولئك المتربحون من هذا الواقع المرير، والمنتفعون من الاحتلال المتربص بنا جميعاً.
غزة، الغارقة في دمها وتحت أنقاض بيوتها المدمرة، وكل مكونات ومصادر حياة أهلها، ليست هي المعزولة، فقد باتت معياراً العدالة والقيم الأخلاقية والإنسانية في هذا الكون الواسع، أما الذين يستسلمون لواقع بوابات حصار المدن والبلدات التي يفرضها الاحتلال، ويقفون عاجزين أمام اجتثاث المخيمات، معزولين عن واقعٍ بات يلتهم حتى غرف نومهم، فهم من يواصلون تشويه أولويات شعبنا الوطنية من التصدي لحرب الإبادة وإنقاذ المصير الوطني، إلى الانسياق في دهاليز هندسة الحالة الفلسطينية، طمعاً في فتات خادع يُلوِّح به الاحتلال لإنقاذ مصيرهم الشخصي.
السؤال الحقيقي ليس فقط “لماذا لا يتحركون؟”، بل ربما: كيف يمكن لشعب مجروح، مشتت، مقموع، أن ينهض من تحت الركام؟
وهنا تأتي الحاجة لمشروع وطني جامع وثقافي منفتح، يقومان على التعددية وإطلاق حرية الرأي والتعبير والفكر ،يُعاد من خلالهما بناء الوعي الجمعي، ويُجدَّد الإحساس بالمسؤولية الجماعية والمصير المشترك. فالخطر جلل وعظيم، ويستدعي تغييرًا وطنيًا يعيد لشعبنا كرامته، وبوصلته الكفاحية، وتضامنه الاجتماعي. وقد بات هذا التغيير استحقاقًا وجوديًا لا يحتمل التأجيل.