الحدث – آيات يغمور
هي الرحلة ذاتها في كل عام، يشد المصلون رحالهم إلى المسجد الأقصى لقضاء شهر رمضان تعبداً واحتساباً، ومن بين المصلين الذين كانت رحلتهم الأشق والأصعب، المسلمون من الجنسيات الأجنبية الذين اختاروا لصيامهم هذا العام وجهة مختلفة تحمل أبعاد القدسية والطهارة، قدموا لمشاركة المصلين في بيت المقدس همومهم وركعاتهم، من تركيا إلى النرويج وحتى الباكستان جاؤوا إلى المسجد الأقصى إيماناً بقضيته ودعماً لصمود أهله.
عامٌ آخر يطرق أبواب الأقصى ليهنئه بعودة مدفع الصيام الذي تتردد طرقاته لتصل بيوت المقدسيين من كل حدب وصوب.
350 ألف مصل كانت جموع الزائرين للأقصى في الجمعة الرمضانية الثانية، جاءها المصلون من كافة أنحاء الوطن والشتات، بنية العبادة الخالصة، القدس هي وجهتهم والأقصى كان حلمهم.
وبعيداً عن محاولات الاحتلال التضييق على المصلين من حواجز ومضايقات، وفي الطريق إلى القدس وعند أول محطة توقف لتلك الحافلة الخضراء أمام باب العامود، يمكن للزائر بحاسة شمه التي باتت أقوى في شهر رمضان تمييز رائحة الكعك المقدسي الذي يتراوح بين الطراوة والهشاشة بين الملوحة والحلاوة بأشكاله الدائرية والطولية، ويستمر في السير نحو البلدة القديمة، لتأخذه حاراتها إلى أحد أبواب المسجد الأقصى.
من أبوابه الخمسة عشر يدخل حشود المصلين ساحاته الواسعة من عشرة أبواب فقط ليتخذوا من مصاطبه ملجأ للدعاء، وتراهم يطربون آذانهم بأصوات المؤذنين والقارئين على مسامع أربعة مآذن يعود بها التاريخ إلى زمن كان فيه الأقصى حرّاً.
وجوه مسلمة بملامح غربية
إذا ما تجولت قليلاً في ساحات الأقصى ستجد نفسك بدأت تبحث في وجوه المصلين عن أعين تعرفها، وإذا بك تسترق السمع لامرأة خمسينية تحاول قراءة آيات من سورة مريم؛ تمسك بيدها هاتفها يمتد منه سماعة للأذن، وبلهجة ثقيلة وعربية ركيكة تحاول فاطمة قراءة بعض آيات المصحف مستعينة بهاتفها ليقرأ لها ما يصعب على لسانها نطقه.
تعود فاطمة إلى أصول هندية، من عائلة مسلمة تتخذ من العاصمة البريطانية مسكناً، قائلة إنها في طريقها إلى تعلم اللغة العربية أملاً في أن تحصل على فهم أكبر من التفسير القرآني.
فاطمة (54 عاماً) أم وجدة وزوجة، هذه زيارتها الثانية لفلسطين، تقول: "لقد قدمت قبل عامين إلى فلسطين وزرت العديد من المناطق في الضفة الغربية أيضاً، وهذه المرة كانت النية خالصة للعبادة فقط".
فاطمة قامت باستئجار شقة صغيرة بالقرب من المسجد الأقصى في إحدى حارات البلدة القديمة، لتكون أقرب ما يكون، تأتي لأداء الصلوات الخمس وتختتمهم بثمان ركعات أو ستة عشر حسب قدرتها اليومية.
وهناك ليس بالبعيد؛ تجلس ماهينور حديثة الإسلام قادمة من بريطانيا بعد أدائها العمرة العام الماضي، قالو لها أن الرسول أوصى بشد الرحال إلى المسجد الأقصى، وبأن الصلاة فيه تعادل 500 صلاة، فعزمت رأيها على القدوم إلى القدس، ثلاثون عاماً أمضتها ماهينور بحثاً عن السلام الداخلي، وها هي اليوم تجده في المسجد الأقصى حسب وصفها.
وتقول ماهينور إن الفلسطينيين هنا يحملون من الأخلاق ما لم تجده في أي شعب آخر، مشيرة إلى صفات الإخاء والمشاركة في الفطور والسحور، وأكثر ما تراه ماهينور لطيفاً ومحبباً لقلبها هو قهوة الخالة أم خالد كما تناديها ماهينور.
وتحت سقف قبة الصخرة وبين جدرانه المزخرفة التي احتضنت "نجوى" التي بلغ بها العمر (60 عاماً) التي تقطن في النرويج منذ ما يزيد عن العشرين عاماً بعد هجرتها من مدينة نابلس، ما زالت تزور الأقصى في رمضان من كل عام، "أنتظر رمضان بشوق لزيارة الأراضي المقدسة، هناك بيتي الثاني".
وبعد نزولك درجات باحات قبة الصخرة، تستكمل جولتك انتظاراً لآذان المغرب وقتلاً للوقت، تستمر في السير متابعاً قراءة تلك الوجوه الصافية، تتوقف عند وجه آخر يجلس بعيداً هناك، أمام المصلى المرواني، ويحاول عبد الله سؤال أحد المصلين عن مكان المتوضأ، مستحضراً جميع الكلمات العربية التي يتذكرها، فعبد الله قادم من باكستان في جولة دينية كانت هذا العام من نصيب المسجد الأقصى، هو أب لخمسة أطفال، جاء هنا يدعو لأصغرهم طالباً له الشفاء من مرض عضال أصابه قبل ثلاثة أعوام، يقول عبد الله عن زيارته الرمضانية من باكستان وصولاً إلى القدس: "هذه رحلتي الدينية الثالثة بعد مكة والمدينة، جئت هنا سائلاً الله أن يجيب دعائي بين أحضان هذا المكان المقدس في هذه البقعة الطاهرة".
هكذا هو المسجد الأقصى وهؤلاء هم رواده، يأتونه من شتى البقاع، ليقضون به حاجة دينية وأخرى روحانية، وفي المقابل يجعلون منه مكاناً آمناً معطينه فرصة أخرى للبقاء قابعاً راسخاً رغم محاولات الهدم والتهويد، سواء من النرويج أو الهند، بريطانيا أو حتى باكستان، يبدو أن الأقصى سعيد بهم من أين كانوا وكيف كانوا، ليبقى المسجد الأقصى ينعم بالسلام.