السبت  26 نيسان 2025
LOGO
اشترك في خدمة الواتساب

في ذكرى المحرقة: كيف تحيي إسرائيل الذاكرة بالإبادة؟ / بقلم: ياسر مناع

2025-04-26 11:43:47 AM
في ذكرى المحرقة: كيف تحيي إسرائيل الذاكرة بالإبادة؟ / بقلم: ياسر مناع
ياسر مناع

تُحيي إسرائيل هذا العام، كما في كل عام، "ذكرى المحرقة"، والذي يُعد من أكثر المناسبات رسوخًا في الوعي القومي الإسرائيلي، بل يُشكّل أحد الأعمدة التأسيسية للهوية الإسرائيلية المعاصرة. في هذا اليوم، تتوقف الحركة في عموم البلاد، وتُطلَق صفارات الإنذار، ويقف الجميع دقيقة صمت، وتُنكس الأعلام، وتُلقى الخطب التي تستدعي مشاهد الإبادة النازية بحق يهود أوروبا.

غير أن ما يجعل من الذكرى هذا العام لحظة فارقة؛ بأنها تتزامن مع حرب إبادة مستمرة منذ أكثر من 18 شهرًا في قطاع غزة، تمارس إسرائيل ممارسات يُجمع باحثو الإبادة الجماعية والحقوقيون على أنها ترتقي إلى مستوى الإبادة الهيكلية، وربما الكاملة، لشعب محاصر ومجرد من مقومات البقاء.

منذ اندلاع الحرب في 7 أكتوبر 2023، شنّت إسرائيل حربًا غير مسبوقة على غزة، استهداف منهجي للمدنيين، والبنية التحتية، والمنشآت الصحية، والتعليمية، والدينية، ناهيك عن  النزوح المتكرر والتجويع الجماعي الذي  وصل إلى حد الاعتراف الأممي بالمجاعة في شمال القطاع. كما تفشت الأوبئة والأمراض نتيجة تدمير البنى الصحية، وحرمان السكان من المياه النظيفة، والدواء، والكهرباء.

إنّ المفارقة التي تفرضها هذه اللحظة لا تكمن في مجرّد التزامن الزمني بين ذكرى الإبادة النازية والجرائم الإسرائيلية في غزة، بل في البنية العميقة للخطاب والدولة في إسرائيل التي جعلت من المحرقة "ذاكرة انتقائية" تُستحضر لتبرير السلوك العدواني، لا لتقييده. فالمحرقة، التي يُفترض بها أن تكون تعهّدًا عالميًا ضد التكرار، تحوّلت في الحالة الإسرائيلية إلى أداة رمزية وأخلاقية تمنح إسرائيل حصانة مطلقة من النقد، وتُسكت كل اعتراض دولي عبر إعادة إنتاج معادلة "نحن الضحايا الأبديون"، أيًّا كان الطرف الذي نتعامل معه أو طبيعة السلوك المُرتكب. بهذه الطريقة، تحوّلت الذاكرة "ذاكرة قمعية" – تُستخدم لا لاستحضار الأخلاق، بل لإنتاج التبرير.

لم تكن هذه الظاهرة وليدة اللحظة، بل تتراكم منذ إقامة "إسرائيل". إذ استُخدمت المحرقة منذ البداية كجزء من السردية التأسيسية للدولة، ليس بوصفها مجرد مأساة، بل كشرط وجود سياسي وأخلاقي. فوفق هذه السردية، فإن العالم قد تخلى عن اليهود في أحلك ظروفهم، ولم يوفر لهم الحماية، الأمر الذي يجعل من قيام دولة ذات قوة عسكرية لا بديل عنه. وقد تطورت هذه المقاربة لتصبح جزءًا من نظرية الأمن القومي الإسرائيلي، بل ولتشكّل بُنية معرفية تتداخل في التعليم، والإعلام، والدبلوماسية، والخطاب الثقافي العام.

ومع كل مواجهة عسكرية، تعيد الدولة إنتاج هذه الذاكرة في ثوب هجومي، فكل صاروخ يُطلق على إسرائيل، أو عملية فدائية، تُفسّر بوصفها استمرارًا "للكراهية الوجودية" التي تعرّض لها اليهود في أوروبا، وبالتالي تُحشد كل الرموز النازية لإعادة تشكيل الرواية. في حرب غزة، كانت المفارقة أن قادة "إسرائيل" أنفسهم استخدموا مفردات الإبادة بحق الفلسطينيين: من وصفهم بـ"الحيوانات البشرية" إلى الدعوة لإزالتهم من الوجود أو طردهم الجماعي إلى سيناء أو أوروبا، وهي مصطلحات تتقاطع بشكل وثيق مع البنية اللغوية التي سبقت المحرقة.

وهكذا،، تحوّلت المحرقة في الممارسة الإسرائيلية إلى بنية استعمارية للعنف. وإذا كانت النازية قد أسّست إبادة اليهود على تصورهم كخطر عضوي يهدد "نقاء الأمة الألمانية"، فإن إسرائيل بالمقابل، تقدّم الفلسطيني اليوم على أنه تهديد وجودي يجب إزالته "للدفاع عن الشعب اليهودي"، وهو ما يعبّر عن إعادة إنتاج مروعة لمنطق "الإبادة الدفاعية"

من هذا المنظور، فإن إحياء إسرائيل لذكرى المحرقة في عام 2025 لم يعد مجرّد حدث رمزي أو ديني، بل بات فعلًا سياسيًا يضفي شرعية رمزية على الإبادة المعاصرة في غزة. ذلك أن استحضار الضحية بوصفها مبررًا للعدوان يعني خيانة لذاكرتها الأصلية، وطمسًا للبُعد الأخلاقي الذي يفترض أن تنطوي عليه مثل هذه الذكرى. فالإبادة، في جوهرها، ليست فقط حدثًا ماديًا من الماضي، بل احتمال دائم يتطلب يقظة أخلاقية، وإعادة تعريف مستمر للمسؤولية الجماعية.

وبناءً عليه، فإن السؤال المركزي الذي يطرحه المشهد الراهن يتجاوز السياسة إلى ما هو أعمق: هل يمكن لمن يقدّم نفسه ضحية للإبادة أن يرتكب إبادة دون مساءلة؟ وهل تتحوّل الذاكرة إلى ترخيص دائم لاستخدام القوة ضد من يُصوَّر كعدو وجودي؟ إن غزة، في العام 2025، ليست فقط موقعًا لجريمة ضد الإنسانية، بل مرآة تُظهر للعالم كيف يمكن للذاكرة أن تُستعمل، لا كأداة تذكّر، بل كآلية نسيان وتبرير.

إنّ ما يضاعف من قسوة المشهد ويستدعي وقفة نقد ذاتي، هو أنّ الفلسطينيين، رغم عقود من الاستهداف الممنهج، والتطهير العرقي، والحصار، والحروب، لم ينجحوا – حتى اللحظة – في تحويل الإبادة التي يتعرضون لها إلى بنية تحليلية مركزية في خطابهم السياسي والثقافي والإعلامي. فما تزال سردياتنا تتأرجح بين خطاب الضحية العاطفي لوحده، أو البطولة لوحدها، والمرافعة الحقوقية التقليدية، دون أن تتبلور لدينا منظومة مفاهيمية راسخة تتعامل مع الإبادة كواقع مركزي يعيد تشكيل وجودنا.

لم يتحول التجويع في غزة إلى "سياسة إبادة بنيوية" في المصطلح الفلسطيني، ولم يُصَغ القتل الجماعي كاستراتيجية متكررة في سياق استعماري استيطاني عابر للأحداث، بل بقي كثير من خطابنا رهن اللحظة، يفتقر إلى الاستدامة المفاهيمية والتأطير. في المقابل، نجحت إسرائيل – عبر أدوات القوة والهيمنة الرمزية – في تصدير سرديتها عن السابع من أكتوبر  2023 إلى العالم وأصبح بنية جديدة في الخطاب الداخلي الإسرائيلي.

ولعل التحدي الآن، ليس فقط في فضح تناقض إسرائيل بين إحياء ذكرى المحرقة وارتكاب المجازر، بل في إنتاج خطاب فلسطيني قادر على تسمية الأشياء بمسمياتها: أن ما يجري هو إبادة ممنهجة، وأن "غزة" اليوم ليست فقط ساحة حرب، بل أوشفيتز 2025 - بكل ما في المصطلح من وقع تاريخي وأخلاقي.