الأربعاء  30 نيسان 2025
LOGO
اشترك في خدمة الواتساب

الدولة الرخوة| بقلم: عمر رحال

2025-04-29 04:05:49 PM
الدولة الرخوة| بقلم: عمر رحال
عمر رحال

تُعد الدولة القوية والفعّالة أحد أهم مكونات الاستقرار والتنمية في أي مجتمع، حيث تضمن تطبيق القوانين، وتحقيق العدالة، وإدارة الموارد بكفاءة. لكن في المقابل، هناك نمط آخر من الدول يُعرف بـالدولة الرخوة، وهو مفهوم يرتبط بالضعف المؤسسي، والفساد، وانعدام سيادة القانون، مما يؤدي إلى تفكك مؤسسات الدولة وانعدام الثقة بها.

برز مفهوم الدولة الرخوة في أدبيات العلوم السياسية والاجتماعية لتوصيف نمط من الدول التي تعاني من ضعف مؤسسي وفساد، وغياب الفاعلية في إنفاذ القانون، وتفتقر إلى الحوكمة والحكم الرشيد. ورغم حداثة هذا المصطلح نسبياً، إلا أنه أصبح أداة تحليلية لفهم اختلالات الأنظمة السياسية، لا سيما في الدول التي تمر بمرحلة انتقالية أو تخضع لظروف استثنائية مثل النزاعات الداخلية أو الاحتلال أو الانقسام السياسي.

ظهر مصطلح الدولة الرخوة لأول مرة على يد عالم الاجتماع والاقتصاد السويدي جونار ميردال الحاصل على جائزة نوبل في الاقتصاد عام 1974، في كتابه "الدراما الآسيوية" عام 1968، حيث استخدمه لوصف الدول التي تعاني من ضعف مؤسساتها، وغياب الإرادة السياسية للإصلاح، ووجود قوانين لا تطبق أو تطبق بانتقائية. وتتميز هذه الدول بضعف أنظمة الرقابة والمساءلة، وسيادة المصالح الشخصية والمحسوبيات على المصلحة العامة.

 لعل أهم الأسباب التي تؤدي إلى نشوء الدولة الرخوة، انتشار الفساد الإداري والسياسي، فعندما تهيمن شبكات الفساد والمحسوبيات على مؤسسات الدولة، فإنها تعيق تطبيق القوانين وتجعل القرارات الحكومية خاضعة للمصالح الشخصية بدلاً من الصالح العام، هذا إلى جانب ضعف سيادة القانون.

القانون في الدول الرخوة، يكون مجرد نصوص لا يتم تطبيقها بشكل صارم، مما يسمح بانتشار الجريمة والظلم الاجتماعي. فعلى الرغم من وجود قوانين وتشريعات تنظم العلاقة بين السلطة والمواطن، إلا أن تنفيذها يتم بانتقائية، وغالباً ما تخضع لاعتبارات سياسية، حيث تسود ظاهرة الإفلات من العقاب، وتعطل استقلالية القضاء، وتستخدم الأجهزة الأمنية كأداة للضبط السياسي لا لإنفاذ القانون، وتسيطر القوى السياسية والاقتصادية المتنفذة على أجهزة الدولة، عدا عن التدخلات الخارجية مما يساهم أيضاً في إضعاف القضاء والمؤسسات الرقابية ويقود في النهاية إلى إضعاف قدرة الدولة على اتخاذ قرارات سيادية مستقلة، يقود إلى خلخلة نظامها السياسي والاقتصادي، مما يساعد في انتشار الأنشطة الاقتصادية غير الرسمية وغياب الرقابة على الأسواق وتآكل قدرة الدولة على فرض النظام الاقتصادي العادل، هذا إلى جانب ضعف الوعي المجتمعي بالقانون والذي يُسهم في قبولهم بالفساد وسوء الإدارة كأمر واقع.

تتجلى مظاهر الدولة الرخوة من خلال تفشي الفساد في مؤسسات الدولة، مما يجعل الوظائف والمناصب تباع وتشترى بدلاً من أن يكون تقلدها وفقاً للكفاءة وعلى أساس تنافسي عادل. هذا إلى جانب عدم تنفيذ القوانين بشكل متساوٍ، حيث يكون الأغنياء وأصحاب النفوذ في مأمن من المساءلة، بينما يطبق القانون بصرامة على الفئات الأضعف. أيضاً ضعف الخدمات العامة مثل الصحة والتعليم والبنية التحتية، مما يؤدي إلى تراجع مستوى معيشة المواطنين. وتفاقم الجريمة المنظمة وضعف الأجهزة الأمنية والقضائية في التصدي لها. وهيمنة النخب السياسية والاقتصادية على القرار العام، وإقصاء الفئات المهمشة من المشاركة في الحكم وفي عملية صنع القرار.

كما تمثل العلاقة بين رأس المال والطبقة السياسية أحد العوامل الحاسمة في تحديد طبيعة الدولة، ومدى قدرتها على تحقيق العدالة والتنمية المستدامة. في الأنظمة السياسية الديمقراطية، تعمل الدولة على ضبط التوازن بين المصالح الاقتصادية والسياسية، بما يخدم مصلحة المجتمع ككل. لكن عندما يتحول تحالف رأس المال والنخبة السياسية إلى علاقة احتكارية تقوم على تبادل المصالح الشخصية، ينشأ نموذج الدولة الرخوة، حيث تسود الفوضى السياسية، ويفقد القانون دوره التنظيمي لصالح قوى النفوذ المالي والسياسي.

لذلك يشير تحالف رأس المال والطبقة السياسية إلى العلاقة التبادلية بين أصحاب الثروة (رجال الأعمال والمؤسسات الكبرى) والطبقة السياسية الذين يسيطرون على أجهزة الدولة. في هذا السياق، يتم استغلال السلطة السياسية لتمرير سياسات وقوانين تخدم مصالح رأس المال، مقابل دعم مالي وسياسي يضمن استمرار الطبقة الحاكمة في السلطة.

من هنا فإن تحالف رأس المال والطبقة السياسية يتخذ عدة أشكال منها تمويل الحملات الانتخابية، حيث يقوم رجال الأعمال بتمويل السياسيين لضمان سياسات تصب في مصالحهم بعد وصولهم إلى السلطة. الصفقات والعقود الحكومية، حيث يتم منح المشاريع الحكومية الكبرى لشركات محددة مملوكة أو مدعومة من قبل نخب سياسية. كما تقوم الحكومة بمنح الامتيازات الضريبية والإعفاءات الجمركية والتسهيلات المالية والامتيازات الاستثمارية لرجال الأعمال القريبين من الطبقة السياسية والمتحالفين معها، كما تقوم الطبقة السياسية بالتوجيه بضرورة سن تشريعات أو إلغاء أو تعديل القائم منها لمصلحة رجال الأعمال ورأس المال، حيث يتم تمرير قوانين تحمي مصالح فئة معينة من رجال الأعمال، سواء عبر تحرير الأسواق أو احتكار قطاعات اقتصادية معينة.

كما تمثل العلاقة بين رأس المال والطبقة السياسية في الدولة الرخوة تحالف مصلحي من شأنه أن يقوض الدولة المدنية، كما تمثل هذه العلاقة بين رأس المال والطبقة السياسية أحد أبرز تجليات الدولة الرخوة، إذ تقوم على تحالف مصلحي غير شفاف يعيد إنتاج الفساد البنيوي ويحول الدولة إلى أداة لخدمة المصالح الخاصة على حساب المصلحة العامة. فبدلاً من أن تلعب الدولة دور الضامن للعدالة الاجتماعية والاقتصادية، تتحول في السياقات الرخوة إلى أداة تمكين للطبقات الرأسمالية المرتبطة بالسلطة السياسية.

في الدولة الرخوة، لا تكون العلاقة بين رأس المال والطبقة السياسية محكومة بقواعد السوق أو مؤسسات رقابية، بل تتأسس على التبادل الزبائني، حيث توفر النخب الحاكمة الامتيازات والتسهيلات لرجال الأعمال المقربين، مقابل الحصول على الدعم المالي أو السياسي.

في الدولة الرخوة يتم صناعة النخب الاقتصادية عبر الولاء السياسي، حيث لا ينشأ الثراء في الدولة الرخوة عبر الريادة أو الإنتاج الحقيقي، بل من خلال القرب من مراكز اتخاذ القرار. وتقوم الطبقة السياسية بتصنيع طبقة رأسمالية هجينة، ترتبط بها أمنياً وإدارياً، وتُستخدم كواجهة اقتصادية لتبرير الفشل التنموي أو كوسيلة لشرعنة الفساد. في المقابل، تضخ هذه الطبقة الرأسمالية تمويلاً للسلطة السياسية، وتساهم في تكريس سلطويتها، لا سيما خلال الانتخابات، الإعلام، أو حملات العلاقات العامة.

هذا التحالف المدمر يؤدي إلى تشويه مفهوم الدولة الحديثة، ويقوض فرص بناء دولة مدنية تقوم على المساواة والعدالة. كما يعمق الهوة الطبقية ويُضعف الطبقة الوسطى، ما يخلق شعوراً عاماً باللاجدوى من المشاركة السياسية أو الاقتصادية، ويُنتج مواطناً مهمشاً اقتصادياً وسياسياً. كما يضعف الثقة بالمؤسسات ويدفع نحو تغليب الخلاص الفردي، على حساب الفعل الجماعي والمواطنة الفاعلة.

والأخطر من ذلك الآثار المُنتَجة، حيث ينتج عن الدولة الرخوة العديد من الأضرار التي تمس جميع جوانب حياة المجتمع، وفي مقدمتها تدهور الأمن والاستقرار فعندما تفشل الدولة في فرض القانون، تنشأ بيئة خصبة لانتشار الجريمة المنظمة والعنف الاجتماعي. هذا إلى جانب تعطيل التنمية الاقتصادية فيؤدي الفساد وسوء الإدارة إلى هروب الاستثمارات، وانخفاض الإنتاجية، وازدياد معدلات الفقر، كما أن غياب العدالة الاجتماعية هي واحدة من الآثار الخطيرة، فعندما تصبح القوانين مجرد أدوات لخدمة فئة معينة، فإن الفجوة بين الطبقات الاجتماعية تتسع، مما يُولّد شعوراً بالإحباط والاغتراب لدى المواطنين، وأبعد من ذلك هو فقدان الثقة في الدولة، حيث يؤدي ذلك إلى ضعف المؤسسات العامة وإلى فقدان المواطنين ثقتهم بالحكومة، مما قد يؤدي إلى احتجاجات شعبية أو اضطرابات سياسية.

كما تتسبب الدولة الرخوة في إضعاف العقد الاجتماعي وإلى تقويض العلاقة بين الدولة والمواطن، إذ يشعر المواطن بالاغتراب عن مؤسسات الحكم، ويغيب الإحساس بالانتماء السياسي. كما يُفضي ذلك إلى تراجع المشاركة السياسية، وانتشار الفردانية، وتآكل مفهوم المواطنة الفاعلة. الأمر الذي يؤدي إلى تعزيز التبعية للخارج، حيث تفقد الدولة الرخوة قدرتها على اتخاذ قرارات سيادية، مما يجعلها عرضة للضغوط الخارجية السياسية والاقتصادية.

للخروج من حالة الدولة الرخوة، لا بد من اتخاذ إجراءات جذرية لإعادة بناء الدولة على أسس العدالة والشفافية والمساءلة، ومن أبرز هذه الحلول إصلاح النظام السياسي ووضع قوانين صارمة لمنع تضارب المصالح بين السياسيين ورجال الأعمال. وتعزيز استقلالية القضاء لضمان المحاسبة العادلة للجميع. ومنع احتكار السلطة من قبل طبقة محدودة. هذا إلى جانب مكافحة الفساد وتقوية المؤسسات الرقابية، وتعزيز دور المجتمع المدني ووسائل الإعلام في كشف الفساد والتصدي له.

كما أن إصلاح السياسات الاقتصادية من خلال فرض ضرائب تصاعدية عادلة على الشركات الكبرى للحد من الفجوة الاقتصادية. ودعم المشاريع الصغيرة والمتوسطة التي تعزز اقتصاد الدولة بدلاً من احتكاره من قبل قلة من رجال الأعمال، هي أيضاً واحدة من الحلول، كما أن تعزيز مشاركة المواطنين في الشأن العام من خلال تعزيز دور المؤسسات الديمقراطية، وضمان إجراء انتخابات حرة ونزيهة، وإبعاد المال السياسي عن العملية الديمقراطية. وتقليل تأثير رجال الأعمال على وسائل الإعلام لضمان حرية التعبير وتعددية الآراء، هي أيضاً واحدة من الحلول.

يمثل تفكيك مفهوم الدولة الرخوة وتحليل تجلياته خطوة أولى لفهم جذور الأزمة البنيوية التي تعاني منها الدولة. وهو ما يفتح المجال أمام ضرورة إعادة النظر في هيكل النظام السياسي عبر تبني عقد اجتماعي جديد، يكرّس قيم الدولة المدنية، ويؤسس لنظام سياسي خاضع للمساءلة، يضمن سيادة القانون، ويستند إلى الإرادة الشعبية. فلا يمكن بناء دولة مدنية في ظل دولة رخوة، كما لا يمكن تحقيق ديمقراطية فعلية دون مؤسسات قوية ومستقلة وفاعلة.

لذلك تمثل الدولة الرخوة تحدياً كبيراً أمام أي مجتمع يسعى نحو الاستقرار والتنمية. فهي ليست مجرد حالة من الفساد وضعف القانون، بل هي بيئة تُعيد إنتاج الأزمات والتخلف الاجتماعي والاقتصادي. ولذلك، فإن مواجهتها تتطلب إرادة سياسية حقيقية، وإصلاحات جذرية تعيد بناء مؤسسات الدولة على أسس العدالة والشفافية والكفاءة، حتى تصبح الدولة قادرة على تحقيق التنمية المستدامة وضمان حقوق مواطنيها.

كما أن تحالف رأس المال والطبقة السياسية هو أحد أخطر العوامل التي تؤدي إلى انهيار الدولة وتحولها إلى دولة رخوة غير قادرة على تحقيق العدالة والتنمية. ولكسر هذه الحلقة، لا بد من إصلاحات سياسية واقتصادية وإدارية حقيقية تعيد التوازن بين السلطة والمال، وتضمن أن يكون القانون هو المرجعية الوحيدة لتنظيم شؤون الدولة. بدون ذلك، ستظل الدولة الرخوة بيئة خصبة للفساد والتخلف والتبعية، مما يجعلها عاجزة عن تلبية احتياجات شعبها، وبعيدة جداً عن تحقيق السيادة الكاملة للدولة بمفهومها السياسي والاقتصادي والقانوني.