محمد الأمين سعيدي/شاعر وأكاديمي جزائريّ
يشنُّ الشاعر التونسي محمد الصغير اولاد أحمد، على صفحته بالفايس بوك، حربًا شديدة بلا هوادةٍ على جبهتيْنِ؛ الأولى ضدَّ وحوش الرّجعية التي تظلّ تخرج من رحم التاريخ والحاضر حاملة بذرة الظلام التي تروم القضاء على الحضارة، وتتقصّد الفتكَ بروح الاختلاف، والرجوعَ بالإنسان إلى شظف البداوة والتشدّد. والثانية ضدّ المرض، تحديدا ضدّ مرض السرطان الخبيث الذي اختار أنْ يستفيق في جسده النحيف دون أنْ يعلمَ أنَّ القصيدة لا يخيفها الألم ولا تقعدها المواجع لأنها ظلتْ تسبر أعماق الفجيعة العربية، وقبل ذلك الإنسانية لتكبح مومياءات القبح التي تزحف صوب كل شيء تجرُّ معها الآخرة قبل الأوان.
بدأ محمد الصغير اولاد أحمد حربة ضدَّ ظلام الجاهليات المعاصرة منذ عقودٍ عديدة، ولذا أتخيَّله، رغم نحافته الواضحة، فارسًا نبيلا لا يحتاج للعضلاتِ لأنّه يركب القصيدة ويجري مع الريح مجهشا بوعيٍ جارحٍ ومشهرا سيفا من الضوءِ لا يجرح ليسيلَ الدّمُ، بل ليستيقظ السؤالُ، إنه ضوءُ الكلمة التي ظلَّت في نصوصه متمسكة بالمسافة بين النضاليّ والأدبيّ. من أجل هذا كان صوتُ نضال الإنسان في شعره يطغى على صوتِ الجماليِّ، أو ربَّما، كان الجماليُّ متأتِّيًا في شعره من هذه الكيمياء التي امتزج فيها صراخ الإنسان أمام معابد الشقاء بتلك العفوية الواضحة في المعجم والمعنى واحتمالات تشكيل الجملة الشعرية.
يقول اولاد احمد:
" هذا أنا.
رجلٌ بلا جيشٍ ولا حربٍ ولا شـُهداءَ.
مُنسجمٌ مع اللاّهوت والناسوتِ والحانوتِ.
لا أعداء لي…
وأشكُّ أنّ قصيدتي مسموعةُ وحكايتي تعني أحدْ!"
أمَّا حربُه ضدَّ مرض السرطان فلا أعرف بالضبط متى اشتعلتْ، فلقدْ علمْتُ بها من صفحته على الفايس بوك. ولمْ أجرؤ أنْ أضع لايكًا على ما نشره من نصوص من المستشفى أو أنْ أعلِّقَ، كنتُ أقرأ وأرى أمامي رجلاً لم يغيِّرْه الألمُ لأنَّه، وهذا قليل في الناس، لم يحدْ عن مواقفه ورؤيته أبدًا، بل ظلَّ يرسِّخها من خلالِ منشوراته ويذكّر بها. وبقوَّةٍ راح يصرخ من فراش المرض:
"أيُّها الرَّبُّ والطِّبُّ
لا تتركاني مع الذِّئْبِ وحدي..".
لقد حارب اولاد احمد ذئابا شرسة كثيرة حين اتُّهِمَ وأُحِلَّ دمُه من طرف الظلاميين، لكنَّه الآن في صراعٍ داروينيٍّ وبنفسٍ شِعريٍّ ضدّ ذئبِ السرطان وهو يحاول افتراسَ غزالة العمر وكسر بيولوجية الرجل النحيف الخارجِ من حضنِ تونس الخضراء أخضر المخيلة والقلب والحرف. إنَّه يستعدُّ للسفر كما فعل دوما، لا باتجاه الموت، وإنَّما صوب بيت الإنسانية الذي يتسع للجميع، ويجعلُ قلبَ من يقيمُ به مفروشا بالزهد ومزدحمًا بالشجر السخيِّ يجود بالظلّ والفاكهة والمحبَّة على الآخرين:
"أُقلُّ على السفينة نُسْختيْن منَ البلاد...
وخيمة...
أغفو بها...
وأنا أُحلقُ، كالفراشة، في السديمْ
ألحّ على الفواصل والنقاط
لأنني لا حرف لي غير الفواصل والنقاط
سماؤنا مشكولةٌ..أيضا
ولا لغة لها منذ القديمْ
أعدّ طعام من يبكونَ حولي:
صادقينَ
وكاذبينَ
وعاشقينَ
وشامتينَ".
أيُّها الشاعر المولود في حضن تونس، أيُّها المتفجِّر من كبد الشعب شعبيًّا رغمَ أنفِ الفصحى، مشتعلا بوطنٍ جميلٍ جمال أهله الطيبين؛ هل يمكنُ أنْ تكون الكتابةُ قاهرة للمرض، أنْ تكسر أنيابَ ذاك الذئب اللعين..لعلها تفعل أكثر من هذا حين تتمثَّل بصوت أبي الطيّب المتنبي مجهشة:"وما الدهر إلا من رواة قصائدي إذا قلتُ شعرا...". وتفعل أكثر حين تصرخ بالوعي المفرط تجاه ما يحدث والخوف على مستقبل الوطن والإنسان.
قلوبنا معك وأنتَ تعبر مدار مرض السرطان سالما بهيا..
حروفُنا معكَ وأنت تؤكِّد:" المرض لا يبرر الكتابة الرديئة".