بقلم: صونيا خضر
كنت أشعر أن السائق يقفز قفزاً عن بقية المركبات المتراكمة، وأعني بالتراكم الحالة الفوضوية للاصطفاف، كان المشهد أمامي وبجانبي وخلفي يبدو متراكماً بشكل مريع، لم أكن أستطيع تمييز العجلات إن كانت تخترق الإسفلت أو تسير فوقه أو تتعربش عليه أو تعبر من خلال الأجساد المعدنية للمركبات الأخرى.
كنت أحدق في تلك الوجوه الغاضبة المعلقة على أعناق تطول وتمتد من نوافذ السيارات لتصل ولو ببصرها على الأقل إلى نقطة أقرب من زاوية خلاص تبدو مستحيلة، وأراقب بشرود تلك الأشارات الطارئة التي ترتكبها أيدي السائقين عن عادة أو عن قصد، فيما ترجمة الأمر كله في تلك الساعة لا تعنيني.
كنت أجلس في عربة الإسعاف الفلسطينية، قرب والدي المصدوم من وجوده في هذا المكان، رفع السائق من مستوى تأهبه حين اقتربنا من حاجز قلنديا وطلب من والدي الذي يجلس بالمقعد الخلفي بجانبي، أن يمد جسده على السرير القذر قبل أن تحدث عملية تبادل المريض بين الجانبين الفلسطيني والإسرائيلي.
شعر والدي بألم غريب في معدته في ذلك الصباح، وقدّر بأن الوصول إلى المجمّع الطبي وسط مدينة رام الله ظهيرة يوم الأحد خلال وقت قصير هو واحد من المستحيلات، فآثر الذهاب مشياً على قدمين واهنتين من القلق والخوف عوضاً عن ذلك.
شخّص الطبيب حالته على أنها ذبحة صدرية شرسة وتستلزم علاجاً فورياً وبأسرع وقت ممكن، لا أعرف كيف قطعت المسافة بين بيتي وبين العيادة بعيد الاتصال الذي أجراه الطبيب بي ليخبرني عن حالة والدي، كل ما أذكره هو الزحام الشديد في شوارع رام الله، والزحام الشديد على باب المصعد والزحام الشديد في رأسي، ووصولي إلى باب العيادة بعد خمسة واربعين دقيقة من الاتصال.
"الوالد بحالة سيئة جداً وعلى الأغلب أنه مصاب بذبحة صدرية وهذا يستلزم نقله بأسرع وقت ممكن إلى وحدة العناية المركزة في واحد من مستشفيات إسرائيل".
هذا ما قاله الطبيب، حفظت العبارة عن ظهر قلب وبقيت أرددها فيما أجرجر جسدي وجسد والدي المريض من زحام شديد إلى زحام أشدّ لأصل آخر الأمر إلى سيارتي المركونة في شارع مقابل للمجمع الطبي، ثم إلى البيت حيث أخواتي بانتظارنا، خمسة وأربعون دقيقة أخرى لأصل أخيراً وتبدأ إجراءات النقل.
جلس أبي مشدوهاً بيننا ونحن نجري اتصالات إلى كل الجهات الممكنة، ونكتشف فيما بيننا أن الوصول إلى تلك الجهات وإن كان ممكناً فهو ليس سهلاً على الإطلاق لمواطنين عاديين، ونحن لسنا أكثر أو أقلّ من ذلك.
كانت الساعة قد قاربت الواحدة ظهراً، وأنا أكرر عبارة الطبيب في رأسي: "هذا يستلزم نقله بأسرع وقت ممكن"، كان الضباب يملأ البيت، كان كل من زوجي وأزواج أخواتي والطبيب قريبنا، يجري مكالماته على حدة، وكان كلّ منا يسعى للوصول إلى أي جهة ممكنة لتنفيذ أمر الطبيب القلق وإنقاذ المريض من خطر حقيقيّ، كنت أسمع كلمات غريبة: "تنسيق"، "نجمة داوود"، "بيت إيل" "الدكتور رشاد"، كانت الحركة من حولي دائرية، مثل عجلة دولاب كبير في مدينة الملاهي، وكنت أتوجه ببصري إلى النقطة العليا من الدولاب فقط، وجه يظهر ووجه يغيب ويعود الوجه الآخر ليظهر، وأنا أكرر في رأسي "هذا يستلزم نقله بأسرع وقت ممكن".
أبي، تجاوز السبعين من عمره، ويرفض أن يعترف بذلك، يعيش وحده منذ وفاة أمي منذ أكثر من عشر سنوات، رياضي نشيط، يبدو وكأنه في مقتبل العمر لولا الشعر الأبيض الذي يغطي رأسه وشاربيه، لا يتكلم كثيراً، لا يضحك كثيراً ولا يشكو كثيراً. لم يشكو يوماً سوى عوارض بسيطة لاحتقان الأنف أو الحنجرة، لديه أسراره وحياته الخاصة التي يحرص على ألا يشرك فيها أحداً، وسيم مستقل خفيف، ولا أذكر أنه عانى خلال حياته من أي عارض صحي، حتى أثناء جلوسه بيننا في ذلك اليوم كان صامتاً متابعاً وكأن الأمر لا يعنيه بشيء.
نظرت إلى الساعة على الحائط، كانت تشير إلى الرابعة مساء وما زالت الاتصالات تجري بكثافة، والأقدام تروح وتجيء، والعجلة تدور ووجه أبي بلا أي تعابير ذات أي معنى خاص، "هذا يستلزم نقله بأسرع وقت ممكن"، جرس يقرع في رأسي.
الساعة الخامسة والنصف، صفارة سيارة الإسعاف تدوي في الشارع، نتأهب جميعاً ونغادر حالة الانتظار والترقب إلى حالة الذهول، ويغادر والدي البيت مشياً على قدميه ونجلس معاً في المقعد الخلفي، كل ما قاله للسائق كان "رجاء لا تطلق صافرة الإسعاف".
لو أغمضت عيني المثقلتين بالنكران قرب السرير في سيارة الإسعاف لرأيت أمي ممددة عليه في مشهد مرّ عليه أكثر من عشر سنوات، لكنني تجاوزت الرائحة والذاكرة والحزن معاً، وضبطت ظهري وشرودي على غبار الصناديق الصغيرة التي تملأ جدار السيارة خلفي.
كنا نتمايل يساراً ويميناً، يسقط أبي على كتفي تارة وأسقط أنا على كتفه تارة أخرى، وكأننا ذاهبان في زيارة عادية إلى القدس، كان سائق العربة يتبادل الأحاديث والنكات مع الصديق الذي يجلس إلى جواره في المقعد الأمامي، ويتولى مهمة القيادة مثل سائق ذكيّ ونشيط لحافلة عادية لا تحمل المرضى، إلى أن وصلنا إلى حاجز قلنديا حيث تنتظرنا سيارة الإسعاف الإسرائيلية، فطلب من أبي أن يتمدد على السرير.
تم فحص هوية المريض وهويتي أنا بصفتي المرافق له، وتمت عملية التتفتيش لشنطة يدي وجيوب القميص والسروال الذي يرتديه والدي، والنظر بازدراء وعداء شخصيّ إلى كل ّ منا، لم يكن بوسعي آنذاك أن أبادل تلك النظرة ولو بنظرة ازدراء شبيهة على الأقل، لأني لم أكن أرى ذلك الجندي الإسرائيليّ أصلاً، كان بصري معطلاً في ذلك الوقت وكانت بصيرتي تبحث في ذلك المكان عن معنى منطقيّ لتوقفنا فيه.
لم يطل بحثي طويلاً فقد تمت عملية التبادل ونقل والدي إلى السيارة الأخرى المكيفة، حيث تحول الجيش الذي يحيط بالسيارة إلى ملائكة رحمة، طبيبة القلب والطبيب المتدرب والممرض والسائق. تم تثبيت أبي بالسرير المتنقل وربطه بأجهزة الإنعاش والأكسجين وتثبيتي في مكاني بجانب السائق بعد إجراءات التدقيق الأمني، نظرت بعدها إلى الساعة في يدي وكانت تشير إلى السابعة مساء وعادت العبارة لتتكرر في رأسي "هذا يستلزم نقله بأسرع وقت ممكن".
كنت أختلس النظر إلى وجه أبي وهو بين الأطباء في خلفية العربة، يمتثل لتوجيهاتهم ويرد على أسئلتهم.
كم عمرك؟ "سبعون عاماً"
هل تعاني من أي أمراض؟ "لا"
هل تتناول أي أدوية؟ "لا"
هل تاريخ العائلة به أمراض القلب؟ "لا"
لا لا لا لا..
بدأت أرى أثار الوهن على وجهه، بدأت أعترف بيني وبين نفسي أنه بحالة صعبة بعد أن بدأ هو يعترف بذلك ويستسلم لحقيقة أنه بين الحياة والموت.
لم أذهب إلى القدس منذ ثمانية أعوام وتحديداً من هذه الطريق التي تقودني الآن إلى مستشفى هداسا عين كارم، حيث كان خالي قد تعرض في حينها لحالة شبيهة وتصادف أن كنت مرافقته أيضاً بفارق أنه يحمل هوية القدس وكان هذا سبباً فاعلاً لقطع المسافة بين رام الله والقدس بأقل من خمسة وأربعين دقيقة، أذكر من ذلك الوقت، كلمات الطبيب وهو يطلب من خالي أن يوقع على استمارة العملية الجراحية:
نسبة نجاح العملية 3% وإمكانية بقائك على قيد الحياة في حال عدم إجرائها 3% أيضاً، والقرار يعود لك.
أي قرار بين الموت والموت، أي مقاومة أو استسلام! أذكر أني تنحيت جانباً كي لا أشارك باتخاذ هذا القرار، وأذكر أنه استسلم للعملية الجراحية التي استغرقت سبع ساعات وهو ذات الوقت الذي استغرقنا لقطع المسافة بين المدينتين، وأذكر أيضاً تلك النظرة الحزينة في عينيه التي قالت كل ما لم يقله صوته بعد ذلك.
أفقت من شرودي على صوت سائق سيارة الإسعاف الإسرائيلية وهو يسألني عن الرسوم فيما يتصاعد صوت الصافرة وهي تحصد الطريق نحو مستشفى هداسا عين كارم والوقت يمر وعبارة "هذا يستلزم نقله بأسرع وقت ممكن" تتصاعد في رأسي ونظرة خالي الأخيرة لا تفارق مخيلتي.
الساعات السبع التي مرت ما بين عبارة الطبيب وبين وصولنا لمستشفى هداسا عين كارم لا تعني شيئاً، وحدها رحمة الله من تسعف الفلسطينيّ حين يصاب بذبحة صدرية.