بعضهم يخاف الذهاب إلى الحمام وحده
الحدث: سراب عوض
لو كان للحرب عيون لرأت بشاعتها على وجه الخليقة، وربما تيقن القائمون عليها أن ثمة أرواح بريئة تزهق في حروبهم دونما مبرر، وأن ثمة أجساد طفولية طرية يبشع عليها ويرسم عليها خطوط مجهولة لها بدايات من الألم والبكاء والصراخ، وليس لها نهايات في شهقات الموت أو حشرجاته بين الأنفاس، غزة هي الذات وهي الموضوع، هي الشخص وهي الأرض، هي اللحم العاري والقوة المستورة، أو لنقل القوة الكامنة في عروق الأرض، كما البراكين التي تنضح في صمت الغليان، ولا تعطي لغير الوعي بالنار زمامها، وهي الرقعة الصغيرة بحجم الدمعة التي تستوعب كل هذا الألم وكل هذه الحمم والبراكين، التي تصب على رؤوس ساكنيها من الأرض والبحر والسماء دونما فائدة، غزة هي الفكرة التي تخرج من خرم المستحيل، وهي أولئك الصغار الذين يذبحون على أعناق النخيل دون صراخ أو عويل، كعصافير يأتيها البين من الغياب، وتفر سجوداً وتهجداً في ملكوت السماء. غزة هي الكلمة الأعظم في زمان الصبر الفلسطيني، وعصر الإلكترون الذي يلف الكرة الأرضية ثمانية مرات في الثانية الواحدة، ومع سرعته تمتد خيوط الدم الفلسطيني البريء، وشهقات الموت والحريق في "أوشفتس" الجديد، الذي بناه أصحاب الفكر الإجرامي التفوقي من أحفاد هتلر ومخلفاته، على رملها الناعم كي تمتزج نعومة التراب مع بريق الدم، وتسجل بشاعتهم على وجه الشمس التي لا تغيب. جزء من هذه المأساه يرويها أصحابها، سكان غزة، الذين يتجرعون كل يوم حسرة الألم والفقد، ويعيشون حالة من الخوف والذعر، لا على أنفسهم، وإنما على أطفالهم وأحبائهم، فالموت لا يوجع الموتى كما قال درويش وأنما يوجع الأحياء.
الصحفي فرج العقاد من خانيونس يقول للحدث: "إن العدوان الغاشم الذي يشنه كيان العدو على شعب غزة لليوم الـ 19 على التوالي، والذي استخدم فيه كافة الأسلحة المحرمة دولياً، وأسقط آلاف الأطنان من المتفجرات، كل هذا ترك آثاراً جسيمة على الأطفال، كالتبول اللاإرادي والأحلام المفزعة، مشاهد يومية أراها في الشوارع عندما تحلق طائرات الاستطلاع الإسرائيلية بشكل مكثف ومستمر في الأجواء، ترى الأطفال يحلقون في السماء، ويراقبونها بكثير من الخوف والقلق، إضافة إلى الطائرات الحربية “F16” ذات الصوت المخيف والمدوي"، ويضيف العقاد: "بالنسبة لأطفالي بكل تأكيد أخاف عليهم من هذا البطش الصهيوني المجنون الذي لا يفرق بين صغير وكبير، بل نجده يتعمد قتل الأطفال الرضع لزرع الرعب في نفوس المدنيين، لفرض سيطرته التي غزتها المقاومة الفلسطينية وخلخلت أركانها، في كل لحظة أضع نفسي مكان أي أب فقد طفلاً أو أكثر من عائلته، حينها لا أستطيع تخيل الموقف الصعب، خاصة في ظل القصف العشوائي الذي تنتهجه إسرائيل، فأطفالي، الأول عمره سنتين والثاني ولد في اليوم السابع للعدوان وننام جميعاً على أصوات القصف الجوي والبري ليل نهار، وعلى مدار الساعة. أما بالنسبة للكهرباء والمياه، فإنها شبه معدومة عن القطاع، فالكهرباء تأتينا ساعة من كل 24 ساعة، والمياه كذلك، ونعاني من أزمة كبيرة في المياة، خاصة مياه الشرب، حيث محطات التحلية متوقفة عن العمل بسبب انقطاع التيار الكهربائي، ناهيك عن الوضع الاقتصادي المتردي، فلا يوجد رواتب لكثير من الموظفين، وهناك 50 ألف موظف في قطاع غزة أصبحوا دون رواتب".
النقابي أبو محمود كلاب، أب لستة أطفال من مخيم خانيونس، يضيف للحدث: "لقد قصف بيت جارنا ووقع جزء كبير منه على بيتي، وهدم تقريباً، مما أثار الرعب والخوف بين أطفالي الصغار، ويؤكد كلاب أن له جدة عجوزاً تعمل في الطب الشعبي والتدليك، يأتيها كل يوم عشرات الأطفال لعمل الخوفه التي أفقدت بعضاً منهم النطق نتيجة العدوان المتواصل"، ويكمل كلاب حديثه عن حفيدته، ابنه الخمس سنوات والمقيمة في رفح وهي تقول لأمها كلما غضبت منها: "ياريت يضربني صاروخ وأرتاح.
مفيد أبو شمالة، رئيس تحرير صحيفة المجتمع، يعتبر أن أثر العدوان على الأطفال نسبي يتفق مع مشاهداتهم وما تعرضوا له، فالطفل الذي أصيب وفقد أعزاء وتعرض للعدوان بشكل مباشر، فإنه سيعاني معاناة يصعب نسيانها، وستظل ترافقه طوال حياته على شكل شريط مؤلم من الذكريات، ويضيف أن الطفل الذي يسمع ويشاهد مجريات الأحداث عن قرب دون أن يتعرض بشكل مباشر لأي شيء، وإنما يسمع أصوات الضرب والأصوات العالية للتفجير ويشاهد نتائجها عبر شاشات التلفزة، سينعكس عليه بشكل نوبات من الهلع والصدمة، ويؤكد أبو شمالة أن نسبة قليلة من الأطفال قد لا تتجاوز نسبتهم 10% يستطيعون التغلب على نتائج الحرب المفزعة بمساعدة أهاليهم.
أما الحاجة أم تيسير زعرب 65 عاماً من مدينة خانيونس، فتروي مأساتها للحدث وتقول: "لدي عشرة أحفاد، ونعيش جميعاً في البيت نفسه، وكل عائلة في شقة سكنية منفصلة، واضطررنا إلى اللجوء لبيت جيراننا بعد أن دمر بيتنا بالكامل"، مشيرة إلى أن أحفادها يخافون الذهاب إلى الحمام بمفردهم، ويبكون باستمرار لمجرد سماع أي صوت خارجي.
أما السيدة نجوى العبادلة، التي تسكن بمدينة المواصي في خانيونس، حيث قامت الزوارق البحرية الإسرائيلية بقصف بيتهم المكون من طابقين، فتشير إلى أن البيت تضرر بشكل جزئي، وأن ابنتها روان 7 أعوام، لا زالت تعاني من ضعف شديد في النطق والسمع، وأحلاماً مزعجة وصراخ في الليل.
السيدة أسماء شكشك 42 عاماً، أم لخمسة أطفال، وتسكن في منطقة الزوايدة بالمنطقة الوسطى في قطاع غزة، تقول للحدث: "قصف الجيش الإسرائيلي منزلي المكون من طابقين، ودمروه تدميراً جزئياً، وأصيب أبني محمد بكسور وحروق في الأطراف، وكذلك أخته الأصغر بإصابة أقل من إصابة شقيقها، ولا زلت أرقد معهما في مشفى ناصر بالمدينة، أما باقي أطفالي فقد نقلتهم للمبيت عند أعمامهم في المدينة، ولا أعرف شيئاً عنهم في ظل اشتداد القصف على المدنيين، وصعوبة إجراء الاتصال مع العائلة.
الأخصائية النفسية زهيرة فارس، أوضحت لـ "الحدث" الكثير من الأعراض التي تظهر على الأطفال نتيجة الواقع المعاش الذي يحاصرهم، فهم في حالة خوف دائم وتوتر وصراخ وبكاء والتصاق بالوالدين وتعلق بالكبار، وكذلك التبول اللاإرادي الذي قد يرافقهم لسنوات طويلة، إن لم يتم التعاطي معهم بوعي ودراية، وأكدت فارس أن نسبة ما تعرض له الطفل من أحداث ووقائع تحدد حالته وطريقة التعامل معه، فهناك بعض الأطفال تؤثر عليهم هذه المجريات بشكل آخر فيميلون إلى العدوانية والحركة الزائدة والبعض منهم يحاول تقليد هذه المشاهد، والبعض الآخر قد يميل إلى الانطواء أو الأكل الزائد أو قلة الأكل، كذلك التشتت وعدم التركيز في شيء، لأن الخوف هو المسيطر الوحيد على أدمغتهم، مشيرة إلى أن هذه الأعراض لا تأتي مجتمعة، فكل طفل تختلف حالته حسب ما شاهد من صور ووقائع، ولذا نطالب الأهل بالانتباه لهذه الأعراض، ولأننا نعيش في أجواء يصعب التنظير فيها، فالأهل يعيشون كما الأبناء في حالة ذعر ورعب شديدين على أنفسهم وعلى أطفالهم، ويشعرون بالعجز والإحباط لعدم مقدرتهم على توفير الأمن والحماية لأطفالهم، التي هي مطلب أساسي وحق لكل طفل، ومع كل هذا، الهدوء مطلوب قدر الإمكان، واللعب مع الأطفال ومشاركتهم الحديث وإشعارهم بالأمان بمحاولة تبسيط الصورة لهم، كل على قدر عمره ومدى إدراكه للأمور، كي لا يذهبوا للتفسير حسب فهمهم. وشددت فارس على ضرورة الابتعاد عن التلفاز وعدم مشاهدة الأطفال لأي من الصور والمشاهد المؤلمة، وتوفير العناية لهم، ومع المستقبل يجب التعامل مع هؤلاء الأطفال كحالات خاصة، مع مراعاة الجوانب النفسية وتقدير الظروف التي تعرضوا لها، وأن يتم نقلهم من مرحلة إلى أخرى، وكل مرحلة لها طرقها وأساليبها العلاجية التي تتناسب مع حالة الطفل وما تعرض له وشاهده من أحداث .