الحدث- ريتا أبوغوش
قلنديا..هذا الاسم الكنعاني الذي انتزعه مخيم اللاجئين، هو في الحقيقة اسم لقرية صغيرة تقع إلى الشمال من مدينة القدس وتبتعد عنها مسافة أحد عشر كيلومتراً. هذه القرية الرابضة هنا منذ مئات السنين، والتي منحت اسمها ومساحة واسعة من أراضيها لأول مطار مدني أنشئ في فلسطين عام 1920، هي قرية تكاد تختفي اليوم تحت وطأة الجدار والاستيطان من جهة، وحكم لون الهوية على سكان البلدة من جهة أخرى.
قصة قلنديا في سطور
سيطرت قوات الاحتلال الإسرائيلي على القرية عقب حرب 1967 واحتلت مطار القدس الذي كان قد أنشئ زمن الانتداب البريطاني، واستملكت بعدها قوات الاحتلال عشرات الدونمات لإقامة ما يسمى بالصناعات الجوية الإسرائيلية على أراضي القرية السهلية ولم يكتف الاحتلال بذلك، بل صادر مئات الدونمات التي تقع جنوب القرية لإنشاء الطريق الالتفافي الذي يربط القدس بشمال يافا.
عام 2010، وضمن خطة ما يسمى بتعديل مسار جدار الضم والتوسع، قامت قوات الاحتلال بتجريف أراضٍ زراعيةٍ في البلدة واستئناف بناء جدار الفصل العنصري بعد التوقف عن بنائه منذ العام 2006.
يبدأ مخطط الجدار الجديد من دوار مدخل القرية إلى جنوب شرق القرية ويمر بشكل ملتف على طريق 'عطروت' ويلف القرية من الجنوب الغربي إلى الشمال الغربي، تاركاً منفذاً واحداً فحسب باتجاه مدينة رام الله جنوباً على بعد أربع كيلومترات فقط، مضيقاً الخناق على أكثر من 1800 نسمة وفق إحصائيات حملة مقاومة الجدار و الاستيطان.
التفريغ الناعم يترك قلنديا بلا سكان
منذ استكمال بناء الجدار إلى اليوم، انخفض عدد أهالي البلدة إلى 1100 نسمة في غضون ثلاث سنوات وفق إحصائيات حملة مقاومة الجدار والاستيطان.
يأتي ذلك عقب ضمّ البلدة للمناطق التابعة للسلطة الفلسطينية، في ظل وجود أكثر من سبعين بالمئة من أهالي القرية ممن يحملون الهوية المقدسية، ويؤثرون مغادرة البلدة للحفاظ على الهوية المقدسية وما تقدمه من امتيازات وإغراءات.
يقول المواطن رامي حسين، والذي غادر القرية إلى منطقة كفر عقب حفاظاَ على الهوية المقدسية، إنه غادر ليتمكن من تسجيل أبنائه في هويته، ولكنه لا يحبذ القرار بل بشعر بالحنين للبلدة.
وأضاف حسين لـ"الحدث": "أدري أن القرار الذي أقدمت عليه جيد لأبنائي، لكنّي فلاح، كقر عقب ليس جونا، أحب عندما أفتح الباب أن أجد ماشية وحمير، لدي اليوم في شقتي هذه شرفة صغيرة، ولكنا نشعر بالاختناق والضيق".
من جهتها تؤكد المواطنة سهام باجس، إحدى نساء القرية اللواتي يحملن الهوية الخضراء، بأن القرية قد فرغت تماماً من أهلها، إذ أصبحت وكأنها قرية لا سكان فيها، وكأنّها بلدة أشباح.
وتضيف باجس لـ"الحدث" أن أهالي القرية يحاولون أقصى ما بوسعهم مقابل مغادرة القرية والاحتفاظ بالهوية المقدسية، حتى لو كان ثمن ذلك يقتضي مغادرة الأرض أو بيعها في بعض الأحوال.
بوابة فولاذية تحكم حياة أسر منفية خلف الجدار
تمكن جدار الضم والتوسع من احتجاز سبعة منازل من البلدة خلفه تفصلهم عن البلدة بوابة، وبعد صراعات طويلة مع القضاء الإسرائيلي كسب أهالي القرية قضية تقضي بفتح بوابة في الجدار لتسهيل حركة أهالي القرية، إلا أن القاضي الإسرائيلي المتابع للقضية أضاف بنداً واحداً غيّر حياة سبع عائلات.."تفتح البوابة في أوقات محددة".
يروي شريف عوض الله، عضو المجلس القروي في قلنديا، لـ"الحدث" معاناة الأسر التي تم احتجازها خلف بوابة فولاذية تحكم سبعة عائلات ويتحكم بها مجندين لم يتجاوزا الأربعة والعشرين من عمرهما.
يقول عوض الله، إن الجدار اقتطع منزله وعزله عن القرية، ولأنه يحمل الهوية الخضراء وتم نفيه خلف "الخط الأخضر"، يتحتم عليه التماهي مع مزاجية الجنود في فتح البوابة، وفق المواعيد الثلاث المحددة، مضيفاً: "يكفي أني نفيت عن بيتي وعائلتي... وأراقب من بعيد بلدتي وهي تموت رويداً رويداً".
وأضاف عوض الله: "وكأننا نحن من طلبنا هذا العقاب والعذاب، يجب أن أتحمل مزاجية الجنود في أن يفتحوا البوابة لي.. لا أستطيع زيارة أهلي، ولا يستطيع أهلي زيارتي، كل هذا في كفة.. والدونمات التي صودرت في كفة أخرى".
بين مغادرة البلدة والمطالبة بتعزيز صمود أهلها
في سياق متصل قال مدير دائرة الخرائط في بيت الشرق خليل تفكجي، إن أهالي البلدة مضطرين للمغادرة، حيث أمست المنطقة معزولة تماماً، في السابق كانت حيوية لوجود المنطقة الصناعية والمطار، أما اليوم فليس ثمة أي نوع من الخطط لمواجهة هذه الإشكالية وتطوير المنطقة، ما يدفع سكانها للمغادرة بشكل مستمر.
من جهته قال رئيس هيئة مقاومة الجدار والاستيطان، وليد عساف، لـ"الحدث"، إن: "الجلاد والقاضي والمستوطن جسد واحد، والمحكمة والقضاء غير متزنان"، مضيفاً أن الهيئة سعت بكامل جهدها لدراسة الأوضاع القانونية والنضال من آجل استعادة الآراضي ومساعدة الأهالي.
وأردف عساف أن الهدف الأساسي اليوم حماية هذه البلدة، وتثبيت صمود أهلها، مؤكداً أن الجهات الفلسطينية الرسمية تبذل "جهوداً واضحة"، حيث تتجه الجهود الديبلوماسية لمحاسبة الاحتلال على جرائمه في المحكمة الجنائية الدولية، من ضمنها جدار الضم والتوسع وما خلفه.
يبقى في البلدة اليوم، و بعد ثلاث سنوات من التجريف والعزل والبناء، بضع عائلات ومنازل متناثرة على ما تبقى من دونمات مشرذمة.
يواجه اليوم أهالي قلنديا البلد سياسات الاستيطان والعزل وحدهم، السياسات ذاتها التي دفعت بأهاليهم وجيرانهم لمغادرة أراضيهم وبيوتهم وذكرياتهم مقابل هوية زرقاء حددت لهم مسار حياتهم، إضافة إلى الواقع الاقتصادي الصعب نتيجة العزل، يبقى السؤال فيما إن كان هذا "التفريغ الناعم" الذي يدفع الأهالي لمغادرة بلداتهم وقراهم سياسة تنتهجها سلطات الاحتلال لتفريغ أكبر قدر ممكن من السكان من خلال أدوات العزل والحصار والتضييق.