أبدأ بتكرار التساؤل الذي طرحه أهم وزير خارجية في العصر الحديث، هنري كيسنجر في لقائه مؤخراً مع مجلة "دير شبيغل" الألمانية، والذي قال فيه: هل أوجدنا نظاماً عالمياً عن طريق الفوضى؟ ومن طريقة التساؤل يفهم الجواب. لقد كشف الكاتب المصري عاطف الغمري عن جوانب مهمة في مقالة صدرت له مؤخراً عن الدور الذي قام به الخبير الاستراتيجي "مايكل لادين" والباحث في معهد "أميركان إنتربرايز" عن وضع استراتيجية ما يسمى بالفوضى الخلاقة في عالمنا العربي، وبهدف تفتيت مقدرات العالم العربي الاستراتيجية والاقتصادية والسيطرة عليها. المعلومة المهمة التي أظهرتها "دير شبيغل" أن كوندليزا رايس وزيرة خارجية "بوش الإبن" استوعبت نظرية "مايكل لادين" ولم تخترعها كما هو شائع بيننا!
ليس مهماً من وضع هذه الأسس لاستراتيجية تدميرية، ولكن المهم هو متابعة تطبيقاتها والتمعن بنتائجها وتداعياتها الراهنة وأمثلتها، ما نراه وما يجري بين شعوب المنطقة وبلدانها في ليبيا والعراق وسوريا وحتى في مصر، بل والمخاطر التي تتهدد أكثر من بلد عربي مثل الأردن وفلسطين ودول الخليج العربي!!
هل ما يجري يعيدنا إلى تفسير التاريخ "بالمؤامرة"؟ أم أن في الأمر أشياء أخرى لا بد من رؤيتها ومواجهتها باعتبارها حقائق مرة تجرعنا ونتجرع مرارتها كل يوم؟!
الولايات المتحدة وحلفاؤها لم تخلق أنظمة ليبيا "القذافي"، كما يعتقد البعض، كما أنها لم تأت بأنظمة البعثيين في سوريا والعراق، ولا هي راضية عن النظام المصري الحالي بعد الإطاحة بحكم الإخواني محمد مرسي، ذلك أن هذه الأنظمة بالأساس أنظمة وطنية وقومية، ولكن سياساتها الداخلية، مع وجود فوارق بين أطرافها، قد فتحت الباب أمام تدخلات خارجية وأنعشت أصحاب خطط الفوضى الاستراتيجية ذات الرائحة العنصرية والتي تخدم مصالح الرأسمالية المتوحشة.
حتى نبتعد عن التعميمات المملة والدارجة هذه الأيام، فإن تفريغ الجبهة الداخلية في النظام العراقي السابق، وسياسة القمع المرافقة لها وعدم حل مشكلة الأكراد وفتح جبهة صراع عسكري لثماني سنوات مع الجارة إيران بعدما كنست حكم الشاه، الحليف الأكبر لإسرائيل والولايات المتحدة، فتحت السياسات الخرقاء للنظام العراقي السابق، وتحديداً بعد احتلال الكويت وتهديد المصالح البترولية في المنطقةـ الباب أمام ضرب العراق ومن ثم احتلاله وفتح خزائن الشرور وخروجها من القمقم حتى يومنا هذا. أما في سوريا وليبيا، ومع اختلاف أشكال التحكم في رقاب الناس، فإن الاحتقان الداخلي وتحكم القائد الفرد وأذرع الأجهزة الأمنية الطويلة وارتباط أصحاب المصالح الاقتصادية الطفيلية مع أطراف نافذة في الحكم بكلا البلدين. كل ذلك فتح الباب على بلداننا العربية هذه، وكما يقال فإن القلاع تحتل من داخل أسوارها!!
لن تستطيع أعمال التخريب ولا الحروب وتجييش الجيوش من كل إرهابيي العالم ومن الدول الطامعة بخيرات هذه البلدان العربية من الانتصار، وسوف تنتصر سوريا الدولة العربية الاستراتيجية والغنية بخيراتها وصاحبة الاكتفاء الذاتي على قوى الشر وجيوش الإرهاب الدولي، والأمر ذاته ينطبق على العراق ومصر وليبيا، وهي معارك مصير سوف توقع آلاف الضحايا والخسارات المادية، ولكن النصر مؤكد.
بعد إلحاق الهزائم بالقوى الرجعية والإرهاب الدولي (لأن ذلك هو الهدف الرئيس الراهن) فلا بد من المراجعة واستخلاص الدروس، فلم تعد المراجعة ترفاً، بل إن ذلك هو المدخل لبناء ربيع عربي جديد بعيد عن التشويه وعن استئثار القوى الرجعية بكل المقدرات العربية، ربيع يلحق بسياسة الفوضى (الخلاقة) هزيمة محققة.
لن نذهب بعيداً، فما جرى في اليونان الأسبوع الماضي من رفض لشروط الاستعباد المالي الأوروبي هو درس بليغ، وما جرى ويجري في فيينا من مفاوضات شاقة بين الدول الرأسمالية وإيران شاهد على صلابة المواجهة التي ستنتهي بانتصار إيران على كل محاولات التطويق والحصار الاقتصادي والعلمي، بل وأبعد من ذلك قليلاً وفي جوارنا ما يقوم به الأصدقاء الروس في إيجاد مراكز بديلة (دول البريكس) والسعي لتطوير حلف شنغهاي دلائل هامة على إمكانات النصر على المخططات الشريرة وكل ما يخطط له تحت عنوان الفوضى وهي فوضى شريرة وليست خلاقة!!