الإثنين  25 تشرين الثاني 2024
LOGO
اشترك في خدمة الواتساب

"أهميَّــةُ أنْ نَعـرِفَ أنْفُسَـنـا... نحو رؤية من الدَّاخل" / بقلم: رائد دحبور

رؤىً في الفكرِ والسياسة

2015-07-14 12:21:25 PM
صورة ارشيفية
 
إنَّ معرفتنا بأنفسنا أولاً، وقبل كل شيء، هي إحدى ينابيع الحكمة الَّتي لا غنى لنا عنها في حياتنا... إنَّ ذلك يعني محاولة معرفة دور عقلنا الباطن ودائرة اللَّاوعي في دواخلنا ودورها في تشكيل شخصياتنا وحياتنا، وكما أنَّ معرفة بعض جوانب آليات عمل عقلنا الباطن هي إحدى ينابيع الحكمة، فإنَّ الجهل المطبق لذلك الدَّور الَّذي يؤدِّيه العقل الباطن في دائرة اللَّاوعي، وبما يحويه من خبرةٍ وذكريات تعود جذورها إلى سِنِيِّ الطُّفولة المبكرة؛ هي مصدر الكثير من مشاكلنا واضطراباتنا.
 
من واقع تلك الأهميَّة الخاصَّة لضرورةِ أنْ نعرفَ أنفسنا، من نحنُ وكيف نفكر وكيف تنشأ لدينا الدَّوافع، وكيف تَتَولَّد وتتطوَّر عواطفنا، وما الذي يحدد أهدافنا في الحياة، وما هي دوافع سلوكنا بالإجمال، وما الذي يحدد اتجاهات ذلك السلوك؟ وبالتالي كيف تتشكل حياتنا الفردية وشخصياتنا، وهل طبيعتنا المزاجية الوراثية هي التي تحدد كل ذلك أم أنَّ البيئة الاجتماعيَّة والتربوية والثَّقافيَّة والظَّرفية هي من تفرض علينا طبيعة أمزجتنا وأنماط استجاباتنا وانفعالاتنا وردود أفعالنا تجاه المؤثِّرات؟ من واقع كل تلك التساؤلات انبثق علم النَّفس بنظرياته ومدارسه المتعدِّدة.
 
وقد كان ذلك العلم خلاصة منهجينِ أو فكرتين هما، الفلسفة وعلم دراسة وظائف أعضاء الجسم، وخصوصاً دراسة آليَّات عمل الدِّماغ، وقد حاول علماء النَّفس منذ البداية تجاوز افتقار الفلسفة للمنهج التجريبي في التَّدليل على ما تطرحه من أفكار، وخصوصاً فيما يتعلَّق بتفسير الإدراك وبتحليل آليَّاته، وعدم إجابتها الحاسمة على ماهيَّة دور "اللَّاوعي" أو العقل الباطن في مسألة تفسير الإدراك، وقد حاول علماء النفس كذلك دراسة آليَّات عمل المخ وتأثير ذلك في مجال المشاعر وآليَّة الإدراك، كقاعدةٍ لصياغة علوم النَّفس.
 
لقد عرَّفَ الفيلسوف الأمريكي "وليم جيمس" علم النَّفس بأنَّهُ علم "الطَّبيعة العقليَّة" فيما عرَّفه عالم النَّفس النَّمساوي "ألفرِد أَلدر" بأنَّهُ علم "الطَّبيعة الإنسانيَّة".
 
وتاريخ الاهتمام بتفسير جوانب حياة الإنسان الدّاخليَّة والوجدانيَّة والرُّوحيَّة قديمٌ قدم اهتمام الإنسان بحياته وبمحاولة تفسير دوافع السلوك ومظاهر السُّلوك على حدٍّ سواء. لكنَّ هذا العلم كعلمٍ منهجي يعتمد على تحليل ودراسة ظواهر ومظاهر السلوك الإنساني بالعموم، وسلوك الأفراد على وجه الخصوص وفق منهج الملاحظة والمتابعة، أو لِنَقُل وفق المنهج التجريبي بناءً على إخضاع ظواهر السُّلوك ودوافعه للمراقبة والدِّراسة وتسجيل الملاحظات والخُلاصات يعود تحديداً الى تاريخ ما بعد منتصف القرن التَّاسع عشر الميلادي، وهو تاريخ بروز أولى مدارس علم النَّفس من خلال منتدى "فيينا" في النَّمسا بحدود عام 1870م، حيث أسَّسَ ذلك المنتدى إلى جانب "سيجمون فرويد" مجموعة من الأطباء والعلماء، ومن أبرزهم العالم النمساوي "ألفريد ألدر" تحت عنوان مدرسة التحليل النَّفسي. إلَّا أنَّ "ألدر" قد انفصل عن تلك المدرسة فيما بعد نتيجة إصرار "فرويد" على اعتبار أنَّ باعث الغريزة الجنسيَّة المكبوتة، هو الدَّافع الأساسي في تحديد سلوك وحياة الفرد.
 
ولقد توزَّعت مدارس علم النَّفس فيما بعد، بين مدرسة التحليل النَّفسي والمدرسة السُّلوكيَّة والمدرسة المعرفيَّة ومدرسة الحاجات وتحقيق الذَّات بقيادة "أبراهام ماسلو" ومدرسة الطَّبيعة العقليَّة، ولإن اختلفت تلك المدارس في النَّظريات وآليَّات تفسير السُّلوك الإنساني، إلَّا أنَّها تكادُ تتفق في إطارها العام على قاعدَةٍ أساسيَّة في تفسير سلوك الفرد، وتلك القاعدة هي، علاقة الأفكار الدَّاخليَّة بالمشاعر، حيثُ تميلُ معظمها إلى أنَّ الأفكار الدَّاخليَّة هي الَّتي تولِّد المشاعر وليس العكس، وكذلك علاقة السُّلوك بالدَّوافع الدَّاخليَّة وبالأهداف كباعثٍ ومحرِّكٍ للأفعال وللسلوك الفردي. وبقيت تلك المدارس بالإجمال تهتم بسمات المنهج الفلسفي فيما يتعلَّق بمحاولة تفسير الإدراك، وبسمات المنهج العلمي والطِّبي فيما يتعلَّق بشرح وظائف الأعضاء وتحديداً آلية عمل المخ.
 
وكما أسْلَفْنا سابقاً، فإنَّ علم النَّفس قد اهتم بموضوعٍ أساسي منذ البداية، وذلك هو أهميَّة معرفة دور المُخ والعمليات التي تجري خلال ذلك السَّائل الرَّماديِّ اللَّزج داخل الجمجمة عَبرَ الوصلات والموصلات العصبيَّة، وبمعنىً آخر، علاقة بيولوجيا الأعصاب والكيمياء العصبيَّة ودورها في توليد الأحاسيس والمشاعر الدَّاخليَّة، وكذلك في تحديد أنماط السُّلوك، وقد اكدَ على ذلك ما لعبته العقاقير في علاج حالات الاختلال العقلي والنَّفسي والتَّخفيف من مظاهر الاكتئاب خلال القرن العشرين وحتَّى الآن. إضافةً إلى ما أتاحته الوسائل الطبيَّة الحديثة من رؤيةٍ لآلية وطبيعة عمل السَّيَّالات العصبيَّة داخل الدِّماغ، عِوَضاً عن دور عمليَّات تشريح الدِّماغ، في محاولةٍ لمعرفة وتحديد مراكز الإحساس والانفعالات، ولمعرفة طبيعة عمل المخ وتأثير الاختلافات الجارية في آلية عمله على الصِّحة النَّفسية والعقليَّة، وقد كانت تلك المحاولات للتشريح الفسيولوجي للدِّماغ ولوظائفه تجري منذ عشرات السِّنين.
 
ولعلَّ إحدى أهم النَّتائج الأوَّليَّة الَّتي استخلصها علمُ النَّفس على ضوءِ المعارف الجديدة المرتبطة برؤية حركة السَّائل العصبي داخل المخ وعلاقة ذلك بالإدراك والأحاسيس والنفعالات، هي أنَّ محاولة الفصل بين آليَّات وجوانب ومظاهر الحياة البيولوجيَّة ووظائف الأعضاء داخل الجسم بشكلٍ عام، وداخل الجمجمة بشكلٍ خاص، وبين مظاهر الحياة العقليَّة والنَّفسيَّة والمعنويَّة للفرد، بمعنى الرُّوحيَّة والوجدانيَّة، وكذلك عزل ذلك عن مفاعيل الذَّاكرة الدَّفينة والخبرة المكتسبة وراثياً وواقعياً؛ هو محضُ أوهام.
 
ورغم ما يمكن أنْ يوجَّه لهذه النَّظرية من انتقادات تتعلق بنظرتها لكيان الفرد نظرةً فيها إلى حدٍّ ما ابتعادٌ عن المعنى الإنساني ضمن الأطُر الثقافية والأخلاقية المتعارف عليها؛ على أساس اعتبارها أنّ حياة الفرد العقلية والنفسية والانفعاليَّة والروحيَّة ما هي إلا مجموعة معقَّدة ومتداخلة من العمليات البيولوجيَّة العصبيَّة ذات الطَّبيعة الخاصَّة، والَّتي تجري داخل المخ، والَّتي من الممكن التّحكم بها وضبط اتِّجاهاتها مع تطوُّر وسائل التَّدخل العلاجي والطِّبي سواءَ من خلال الجراحة أو العقاقير؛ إلَّا أنَّ النَّتائج الأوَّليّة لما قد توصَّلت إليه علوم المخ والأعصاب مؤخَّراً قد تؤكّدُ على صحَّة الافتراض القائل بأنَّ مجموع طبيعة بنيان الحياة العقليَّة والنَّفسيَّة والمعنويَّة الدَّاخليَّة وكذلك الأبعاد الرُّوحيَّة والوجدانيَّة لدى الفرد تحددها طبيعته البيولوجيَّة العصبيَّة الخاصَّة.
 
ورغم الانتقادات الَّتي وجِّهت إلى مدرسة التحليل النَّفسي، باعتمادها على إعطاء دور كبير للعقل الباطن أو اللَّاوعي في تحديد دوافع وبواعث سلوك الفرد، وكذلك تقسيمها للشخصيَّة الإنسانيَّة ضمن ثلاث مستويات هي الأنا والأنا العليا والهوَ؛ إلَّا أنَّها ما زالت تُعتبر من المدارس الَّتي تؤكِّد بحوث علم النَّفس الحديث على صحَّة الكثير مِمَّا قدمته من نظريَّات.
 
ورغم الانتقادات الَّتي توجَّه للمدرسة العقليَّة على أساسِ إعطائها أهميَّة قصوى لدور أنماط الإدراك، ودور ماهيَّة العقل بين المنطقي أو الإدراكي أو الانفعالي في تحديد طبيعة الدَّوافع والانفعالات والسُّلوك؛ إلَّا أنَّ دور وآثار سيطرة أنماط الإدراك بين منطقي وانفعالي تبدو واضحة على مظاهر وطبيعة السُّلوك وتحديد اتِّجاهات البنيان النَّفسي للأفراد.
 
وكذلك الأمر بالنِّسبة للنتائج التي خلُصت إليها المدرسة الطبيعيَّة، والَّتي ركَّزت على إعطاءِ أهميَّة قصوى للطبيعة الوراثية للبناء العقلي والنَّفسي للفرد في تحديد طبيعة دوافعه وسلوكه بمعزلٍ عن البيئة الخارجيَّة وعن الظرف الموقفي والموضوعي أو البئة التربويَّة والثقافيَّة التي نشأ في أثنائها، ولأن كان ذلك فيه جانب مهم من الصِّحَّة، إلَّا أنَّ التركيز على أنَّ العلاقة بين الطبيعة الفرديَّة "الجينيَّة الوراثيَّة" وبين البيئة على أساسٍ تبادلي تبدو وبشكلٍ ما أكثر صواباً، فإذا كان للطَّبيعة الوراثيَّة دورٌ أساسي في تشكيل الحالة المزاجية للفرد؛ فإنَّ للبيئة الخارجية دورٌ مهم في تعزيز أو إقصاء عوامل الطبيعة المزاجية الوراثية.
 
وخلاصة القول: إنَّ الاهتمام بالثَّقافة الَّتي يُقدِّمها لنا علم النَّفس، ولو بالحدود الدُّنيا، يُعدُّ أمراً ضروريَّاً من زاوية أهميَّة توفُّر معرفتنا بأنفسنا على وجهٍ يُعيننا على فهم دوافعنا وأهدافنا وكذلك دوافع الآخرين والبيئة النفسية والظرفية والانفعالية التي تتشكل ضمنها وعلى قاعدتها تلك الدَّوافع والأهداف، وفهم طبيعة النفس الإنسانية بالإجمال، وثمَّة الآن فرصة لذلك من خلال الكتب التي طُرحت مؤخَّراً والَّتي يمكن للقاريء غير المختص الاطِّلاع عليها والاستفادة منها.