يتغنى السياسيون الفلسطينيون ومثلهم بعض الاعلاميين والمنظرين بالمكانة المزعومة للمرأة الفلسطينية في المجتمع والنضال الوطني. لكن هذه البهلوانيات اللغوية لا تعدو كونها امعاناً في ترسيخ الأكذوبة التي شوهت دور المرأة في تاريخنا وجملت واقعها المحكوم بمفاهيم بائدة وبائسة.
في أوقات السلم (النسبي)، يساق للأكذوبة بالقول ان المرأة في فلسطين تتمتع بحقوقها المدنية والقانونية وان لها الحق والحرية في المشاركة الفاعلة في الحياة السياسية والاقتصادية. كذب! كيف يستقيم هذا الادعاء الدعائي والمرأة في مجتمعنا لا زالت ملحقا بالرجل بموجب القانون؟ كيف يستقيم والمرأة توصم بحالتها الاجتماعية بالنسبة للرجل فهي ليست مواطنا كاملاً وانما عزباء أو متزوجة تحمل اسم زوجها في تبعية تناقض المنطق أو مطلقة أو أرملة! بطبيعة الحال، الرجل مواطن وحسب والقانون لا يفصل حالته بهذا التشريح ولا يوصمه كما المرأة بحالة الطلاق او غيرها عملاً بمنطق المثل الشعبي القائل "الرجال ما بيعيبه الا جيبه"!
وتمتد الأكذوبة إلى ما هو أعمق من خانة على الهوية، حيث يتعامل القانون مع المرأة الأم باعتبارها حضانة لا أكثر، تنجب الأطفال ولا حق لها أو قدرة برعايتهم. فلا حق للأم بفتح حساب توفير لأولادها دون موافقة الأب الخطية والذي يعرفه القانون بولي أمر الطفل بينما يتعامل مع الام وكأنها قاصر! هذا ينطبق على الأم المطلقة أيضاً، حتى وإن كانت تمتلك حضانة الاطفال فهي لها أن ترعاهم ولكن القانون لا يعتبرها أهلا لاتخاذ قرارات بشأن مستقبلهم. وان كانت الأم المعنية أرملة، فالحال معقد أكثر بحيث تكون الوصاية على أطفالها لأي قريب من أقربائهم الذكور لكنها لا تؤول للأم الا إذا خاضت معركة قانونية واجتماعية يتم بموجبها "التنازل" للأم وكأنها كائن فضائي غريب لا تملك الحق الطبيعي في الوصاية على فلذة كبدها!
والقانون لا يمنح الأم حق طلب أو تمديد جواز السفر لأولادها دون إذن خطي من أبيهم حتى لو كان عاراً على الأبوة. أما الاب، فلا يحتاج لإذن من أحد، بحيث يمكن أن يستخرج جواز السفر ويخطف الأولاد خارج الوطن دون أن يسأله أحد عن الأم ورأيها أو وجوب علمها وموافقتها...
وللدلالة على مدى التشويه الذي طال دور المرأة في المجتمع، ما علينا سوى مطالعة البيانات الخطابية والسياسية والاعلامية التي تنهال علينا يوم المرأة العالمي ويوم الأم. حيث تحتفل هذه البيانات بالمرأة التي توصف بأم الشهيد وأخت الاسير وزوجة البطل وبنت الفدائي... لكن هذه المعزوفات الانشائية تمعن في محو الإرث الثقافي والانساني والبطولي للمرأة الفلسطينية التي يمتد كفاحها من أجل حرية وطنها إلى ما هو ابعد من حركة التحرر الوطني المعاصر. فلا تذكر البيانات تلك أن المرأة شاركت في كل جبهات النضال والمواجهة ولولاها، لانهار مجتمعنا الذي سجن الاحتلال حوالي ربعه - قرابة مليون من رجاله - منذ العام 1967؛ وبهذا تولت المرأة وحدها مسؤولية تحدي القيود والتخلف الاجتماعي على كل الاصعدة في سبيل تحدي الاحتلال والحفاظ على كينونة المجتمع وهويته الوطنية.
أما في أوقات الموت والمواجهة، فتتجلى النظرة الذكورية الدونية للمرأة والتي يرسخها القانون بأحكامه. فيظهر علينا القادة السياسيون ويتفاخرون بالقول: "قتل منا العدو ألفاً ولكن نساءنا أنجبن ألفين في ذات الفترة"! وبهذا التصريح الذي ينم عن ازدراء للمرأة وقيمة عطاءها، يتساوى هؤلاء مع من يروج ويحلل ما سمي "جهاد النكاح"! الطرفان مقززان في نظرتهما للمرأة باعتبارها آلة لإنتاج الاولاد ومتعة الرجال ونظرتهم للرجل باعتباره حيوان غريزي مفترس ومجرد من المشاعر والمنطق.
في وثيقة إعلان الاستقلال، عرف شاعرنا العظيم محمود درويش دولة فلسطين بالدولة الديمقراطية التي يتمتع فيها المواطنون بالمساواة الكاملة في الحقوق في ظل نظام ديمقراطي يقوم على أساس حرية الرأي وعلى العدل الاجتماعي والمساواة بين الرجل والمرأة وعدم التمييز. وحيا الراحل درويش في ذات الوثيقة التاريخية والمستند القانوني الأساسي "المرأة الفلسطينية الشجاعة، حارسة بقائنا وحياتنا، وحارسة نارنا الدائمة". صدق محمود درويش وكذبنا نحن...
ولتصحيح المسار وإنهاء الأكذوبة، لا بد من البدء من المنبع... من القانون. فلتسقط كل الأحكام البائدة البائسة ولتنسجم قوانيننا مع ما ندعيه عن أنفسنا من رقي ثقافي والتزامات بموجب القانون الدولي احتفلنا بها حين التحقت فلسطين بالمعاهدات والاتفاقات الدولية. أولوية مواءمة قوانيننا مع هذه الالتزامات يجب أن تكون بنفض الغبار عن القوانين والمفاهيم البائدة المتعلقة بالمرأة وحقوقها وتعريفها كمواطن منقوص الحقوق والأهلية. المرأة ليست "زائدة دودية" ولا خلقت لخدمة المشروع الذكوري، اجتماعيا كان أم سياسياً...
مكانة المرأة في أي مجتمع عنوان لرقيه وارتقائه. فكلما مارست المرأة حقوقها وتعامل معها المجتمع والقانون ككيان مستقل ومعطاء، زاد شأن المجتمع وازدهاره. في المقابل، لا يمكن لمجتمع يعامل المرأة بهذا الكم من الازدراء والدونية أن يتوقع تربية جيل من الأحرار والمواطنين المبدعين يترجمون تعريف درويش لفلسطين بالوطن الذي سيبقي دائما وطناً حراً لشعب من الأحرار. هذه مسؤولية وطنية تتخطى حقوق المرأة بتعريفه الضيق فهي متسقة بتعريفنا لأنفسنا وبهويتنا الوطنية ومستقبل فلسطين الذي بات مهدداً بسحابة ظلماء وظالمة من الفكر الرجعي الذي لا يقابله سوى الجبن والمداهنة.