محمد الأمين سعيدي/شاعر وأكاديمي جزائريّ
تنطلقُ الكتابة من خلفياتٍ معرفية وجمالية مختلفة، فتختلف وفْقا لذلك الرؤى التي تقدِّمها والآفاق التي ترومُ التعبير عنها. ولذا نجدُ أنفسَنا غالبًا أمام نوعيْن من الكتابة؛ واحدةٍ تكتفي بوصف العالم كما هو، مستعينة بالمجازِ أو متكئة على قوّةِ العبارة، وهذه الكتابة كثيرة جدا قليلٌ منها الجيّد. وأخرى تحاولُ أنْ تختلق عوالمَ مغايرة، فتجعلَ النص فضاءً للخيالاتِ الجديدة والرؤى المبتكرة. وهي قليلة، وضمنَ هذا النوعِ الثاني تجدُ كتابةً، وهي الأقلّ، تسعى، حين تجترحُ الأسئلة المربكة، لتعبِّر عن شعور فادحٍ بضياعنا تحت قبة السماءِ وشقائنا الممتدّ من أوّل إنسانٍ يمتلك الوعيَ ليكتشف مقدار هشاشته ويرى شيئا من طلْع شجرةِ بؤسه لأنّه يمتلكُ ما يكفي من الوعي والنبض ليسلك سبل الحيرة ويطرق كل بابٍ يحسبه المعنى، ويحظى في الآن ذاته بموهبة فطرية على الألم تشعلُ في صدره حريقًا لا ينامُ.
تبدأ هذه الكتابةُ حين تقف على أكبرِ اكتشافٍ على الإطلاق؛ أنّك لا شيءَ في هذا العالمِ فتصرخُ مع أبي العلاء المعري، بين حسرة وعجبٍ:"ما أقلَّ العالمَ وما أقلَّني فيه". حينَ تنتبه إلى أنَّ جسدك الجميلَ ليسَ أكثر من مادَّة ستدخل عمَّا قليلٍ إلى فرْنِ لافوازيه لتندرجَ مجددا في دورة الأشياء حيثُ قيمتُك في قدرتك على التحلُّل والتحوُّلِ إلى أشكالٍ أخرى من الحياة. قد تفهمُ حينَها رفْقَ عمر الخيّام بالطين وعطْفِه عليهِا حين الشرب والصحو، وستسمع صوتَه الثمِلَ في أعماقك يغنِّي وحيدًا:
"كل عشب يبدو بضفّة نهر
قد نما من شفاه ظبي أغرِّ
لا تطأْ ويحك النبات احتقارا
فهْو نامٍ من مزهر الخدِّ نضْرِ".
وحين سترسلُ طيور بصرك بعيدًا سترى أنَّ كوكبك العظيم ليس أكثر من ذرّة غبارٍ في هذا الكون الفسيح، وأنَّ قناعاتِكَ عنه أشبه بخيالاتِ الأطفالِ، بل إنَّ خيالكَ أعجز من أنْ يستوعبَ بعض عوالمه المعقّدة. وفي تلك اللحظة المصلوبة على شوك الخيبة، سيكون من النبلِ من جانبِكَ أنْ تعترف على لسان حيوانٍ متواضع من جنسك هو إيميل سيوران:"غُصْتُ في المطلق مغرورا غبيًّا، وخرجْتُ منه وأنا مثل ساكن الكهوف."
هذه كتابةٌ مدجَّجة بوعي فادحٍ بالخسارة، لأنّها تنطلق من الوعي بأننا عالقين داخل نظامٍ أكبر منَّا، وفي الآن نفسه، محكومين بقوانينه التي نشعر بتأثيراتِ بعضها علينا، ونغفلُ عن أغلبها، وأننا مهما حاولْنا فلنْ نغيِّر شيئا لأننا أضعف من أنْ نقوم بذلك. وما لا نغيّره هو ما يؤرقنا دائما؛ فنحن نعبثُ هاهنا لنموتَ في النهاية كالكلاب والقطط والحشرات، مع فارقٍ بسيطٍ أنَّ أحبابنا إذ يدفنوننا يعجّلون بتحللنا، وأنّنا نحظى بعزاءٍ على شرف موتنا اللعين، وبعضنا يدفعُ أهلُه ليُنشر خبرُ وفاتِه في جريدة، وكأنَّ الآخرين يعنيهم أنَّ أحدًا تركَ مكانه ورحل إلى لا مكانٍ وحيدا وبلا ملابس
في هذا النوعِ من الكتابة إرباكٌ دائمٌ للقارئ، وطرقٌ مستمرٌّ على بوابات الشكوك، واعترافٌ بالعجز التام؛ عجزنا عن بلوغ مآربنا لأننا أصغر من قوى الكون، وعن المحافظة على إنسانيتنا لأنَّ هذه الأخيرة من إنتاج الثقافة بينما حيوانيتنا الضارية هبة الطبيعة وتاج البيولوجيا. وعلى عكس الكتاباتِ العادية التي تهجو القاتل وتلعن القتل، تقف هذه الكتابة أمام ورطة حقيقية؛ فهي ترفض القتْلَ لأنها تحبُّ الحياة، وفي الآن ذاته، تُدرك أنه مستمرٌّ مهما تعددتْ مرجعياته لأنها تعرف الإنسان جيدا، وتعرف أيضا الحيوان الساكن في مرايا باطنه اللاواعي.
تُتّهم هذه الكتابة بالتشاؤُم، وقد يوصمُ أصحابها بالعدمية، لأنَّ القارئَ يخافُ من الخطاباتِ التي تجهش بالوعي الجارح، ويُفضّلُ على ذلك الأدب الذي يحصِّنه بالوهمِ ويمنحه الأملَ الزائف. ولذا ستظلُّ هذه الكتابة قليلة، فلا أحدَ يحبُّ الحقيقة، وأنْ يصرخَ به نصٌّ أيها الكائن الميِّت اسمع حقيقتك الوحيدة على لسان أخيك المتنبي:
"نَحنُ بَنو المَوتى فَما بالُنا
نَعافُ مالا بُدَّ مِن شُربِهِ
تَبخَلُ أَيدينا بِأَرواحِنا
عَلى زَمانٍ هِيَ مِن كَسبِهِ
فَهَذِهِ الأَرواحُ مِن جَوِّهِ
وَهَذِهِ الأَجسامُ مِن تُربِهِ".