الأحد  24 تشرين الثاني 2024
LOGO
اشترك في خدمة الواتساب

في فضاء القصة العربية القصيرة جدا

2015-07-14 01:40:05 PM
في فضاء القصة العربية القصيرة جدا
صورة ارشيفية

  

بقلم الناقد والقاص: أمين دراوشة
 
تناولت في الدراسة مجموعة من الكتّاب والكاتبات العرب، الذين كتبوا القصة القصيرة جدا، ومن خلال دراسة النماذج القصصية تظهر المميزات التي تملكها القصة القصيرة جدا. فالقصة القصيرة جدا الناجحة، عبارة عن نص إبداعي عميق، بحيث تبقى آثاره في ذهن المتلقي، لتعيد صياغة ثقافتة.
تقول انتصار السري في قصة "سواد":
"ارتدت عباءتها السوداء، خطت خطوات إلى الشارع المكتظ بالسلاح، انتصبت أمامهم، تفرستهم بحقد، خلعت عباءتها، تساقطوا في لجة سوادها...".
هذه القصة تدخل في الفعل مباشرة، فهي لم تحدثنا عن الشخصية ولا حتى عن زمن الكتابة، ومن هي التي لبست العباءة؟ أهي فتاة ؟أم الوطن؟ ولكن من خلال السياق نفهم إنها تتحدث عن مدينة، وإن الزمن هو زمن الفرقة والتناحر وقتال الأخوة، وإن الوطن (الفتاة) عندما تعرى فإن الجميع كان مآله الخسارة والضياع. وهنا لا مجال للإفاضة والصف المطول فالكل كلمة موضعها، وتصل القصة إلى مرادها في كلمات قليلة.
وفي قصة أخرى يقول جمعة الفاخري في قصة "حلوى":
"حَمَلَ سَائِقُ السَّيَّارةِ الفارهَةِ علبَةَ حَلْوَى إلى بيتِ الطِّفْلِ الذي صدمَهُ فكسرَ رجلَهُ...
وزَّعَتْ والدةُ الطِّفْلِ الْحَلْوَى على أطفالِ الشَّارعِ شكرًا للهِ على سلامَةِ ابنِهَا...
من حينِهَا غَدَتْ لأحلامِ الصِّغارِ الْمُعَبَّأةِ بالحلوى أرجلٌ ممتدَّةٌ باتجَاهِ سَيَارَاتٍ فارهةٍ تعبرُ أحلامَهُم الجوعى باتصَالٍ...!".
يدلف الكاتب إلى الفعل مباشرة، دون وصف يقتل حبكة القصة، ويتناول الكاتب موضوع الفقر المدقع الذي يرزح تحته جل الشعب العربي، رغم الثروات الهائلة في جوف أرضه.
فوالدة الطفل الذي تعرض للدهس توزع الحلوى التي احضرها سائق السيارة الفخمة على أطفال الحي الجياع، ويصدمنا الكاتب في النهاية، إنه بعد تناول الأطفال للحلوى أصبحت أحلامهم تسير مسرعة نحو الشارع حيث السيارات الفارهة آملين أن تدوسهم ليحظوا بما حظى به رفيقهم.
والقصة القصيرة جدا لا تكون دون حدث وشخصيات، وﻷنها قصيرة جدا ستكون المعالجة لحدث واحد، والشخصيات محدودة، وترتكز على شخصية محورية واحدة. ومن مميزاتها أنها تقبل بالفانتازية، وشخصياتها قد تكون من الحيوانات والجمادات.
 وتتصف أحداثها بالإيقاع السريع، ونهايتها يجب أن تكون صادمة وتذهل القارئ.
يقول فؤاد نصر الدين في قصة " تورته":
"لم يستطع الاحتفال بعيد ميلاد ابنته؛ فأرسل لها تورتة افتراضية عبر النت...كان يحلم بإشعال الشموع معها، والغناء مع المدعوين ثم تقطيع التورتة...لكن في لحظة الحلم سقطت دموعه على الشموع فأطفأتها..."
نجد الكاتب قد ولج إلى الحدث مباشرة بلا مقدمات، "لم يستطع الاحتفال بعيد ميلاد ابنته"، يرمي الكاتب جملته، ليبدأ القارئ في التفكير بالسبب الذي يجعل أب يغيب عن حفل ميلاد ابنته. ثم يقذف جملة غريبة وفانتازية، حيث يرسل اﻷب تورته افتراضية من خلال النت إلى ابنته، لعل ذلك يعوضها غيابه، ويعوضه عن الشعور بالذنب..تتحول التورته عبر الحلم إلى حقيقة، ويمارس اﻷب الغناء مع المدعوين ويشارك في تقطيعها...غير أنه يشعر بداخله بالحرقة لعدم مقدرته على لمس ابنته وتقبيلها. يبكي بلوعة، فتنزل دموعه وتكون المفاجأة بأنها تطفئ الشموع، أو على اﻷصح تطفئ الحلم.

إن من مميزات القصة القصيرة أنها تترك شيئا مضمرا لا تقله، لتجعل القارئ يفكر ويشارك بالفعل، القصة جميلة ومليئة بالحركة والحياة من خلال اﻷفعال المضارعة المستخدمة (يستطيع، يحلم، تقطيع)، ومن خلال الأفعال الماضية (أرسل، كان، أطفأت) نقلنا الكاتب إلى أكثر من زمن.
تبقي القصة على تساؤل دون إيجابه. ما الذي يجعل أب لا يحضر إلى حفل ميلاد ابنته؟
 أهي الغربة البعيدة من أجل لقمة العيش؟ أو قد يكون السبب الظلم السياسي، وهروب اﻷب إلى الخارج بسبب الملاحقة اﻷمنية!
ومن مميزات القصة القصيرة جدا التناص، حيث يلجأ الكاتب إلى هذه التقنية من أجل التكثيف والاختزال، كما إنه يحيل على نصوص أخرى تساهم في ملئ الفراغات في هذا النوع الأدبي.
والتناص في القصة القصيرة جدا يجب أن يكون "ديناميكي يثير القارئ ولا يبقى في حدود الاستدعاء النصي السلبي...(فالتناص) له أثر فعلا على عملية المشاركة لدى القارئ فالسارد لا يوحي بمكانة النص المستدعى، والسياق الدلالي الذي يرمي السارد إليه هو الآخر تنقصه المعلومات". (باسيليوس حنا بواردي وآخرون "طروحات عامة حول النوع والأسلوب". في: القصة القصيرة جدا.  رام الله: مركز أوغاريت الثقافي. ص 9-18. ط1. 2011م.)
مما يجعل التناص يكتنفه الغموض ويحتاج إلى فهم سياقه أولا ومن ثم البحث في العلاقة التشابكية بين النصين، ومعرفة كيف خدم التناص القصة.
 
تقول انتصار السري في قصة "ضوء القمر":
"تــحـت ضوء القــمر وبرفقــة موباسان، هل كنت أنا هي هنرييت تلك التي تفـتش عنك تحت ضوء القمر؟
هيا... مد يدك، لنشعل شمعتنا الثانية، لنمارس هذياننا بقرب تلك البحيرة، لنعيد
نسج رقصتنا الأولى... ها هي عيوننا تسكرنا بشهد عناقهما، ظل ضوء القمر يختـلس نظـرة غيـرة نحـونا، غافـلنـاه، لنتماهى في خطوط شعاعه، انطـفأ قـنديل غـرفـتي، عمت العتمة جدرانها، سـقطت قصة ضوء القمر من يدي..."
يظهر هنا الموهبة الخلاقة للكاتبة، في الاستفادة من تجارب الحياة والآخرين، وتفلح في استخدام التناص بشكل طبيعي وغير مفتعل، حيث نرى تناص في العنوان مع قصة الكاتب الفرنسي موباسان ومع بطلة القصة أيضاً.
فالقصة تتحدث عن امرأة تشبه هنرييت التي بحثت عن الحب والحنان في أحضان زوجها، ولكنها لم تجده، وعلى ضفة البحيرة تتخيل شخصا تعيش معه قصة حب مشتعلة والتي كانت تتمنى أن تعيشها مع زوجها. ولكنها من كثرة القلق والتفكير تصاب بالهزال والشحوب، ولم تستطع حتى في الحلم أن تحقق المراد، فتعم العتمة قلبها وغرفتها وكل شيء يتشح بالسواد، وقصة "ضوء القمر" التي كانت البطلة تقراها وأثرت بها تهاوت من بين يديها دلالة إن الواقع قاس ولا يمكن علاج علّاته بالهروب خلف الأحلام والأوهام. فالنهاية وان بدت متشائمة إلا إنها للقارئ الفطن بداية كفاح مرير لتحقيق الغاية.
وفي قصة عبد الله المتقي " برومتيوس":
 " الشاعر يكتب فوق المكتب
يكتب برومتيوس في وحدته مثلا،
يدخن القنب، المغربي
يشرب قهوته،
ويفكر في شيء ما:
قصيدة مثلا أو سرطان". (عبد الله المتقي. مجموعة "الكرسي الأزرق" في: لسان الأخرس"، أربع مجموعات قصصية. دمشق: دار النايا للدرايات والنشر. ط1. 2014م. ص 11)
يحدثنا الكاتب عن بطله الشاعر الذي يجلس وحيدا، يدخن بشراهة ، ويشرب القهوة، وتأخذه أفكاره إلى البطل الأغريقي برومتيوس الذي سرق نار المعرفة من زيوس كبير الآلهة، وأهداها للبشرية، وتعرض لسخط زيوس الذي عاقبه بقسوة.
فماذا كان يفكر الشاعر؟ إن له رسالة يجب أن يؤديها في نشر المعرفة عبر الشعر، وإن للأمر ذيول ولا يمكن له أن يمر دون عقاب كما حصل مع برومتيوس، لذا نرى الشاعر يفكر بالشعر ومفعوله، ونتائجه التي لا يحمد عقباها، وهي العقاب القاسي بالإصابة بمرض السرطان القاتل. غير إن الشاعر يستمر في عمله الذي يؤمن به غير عابىء بالعواقب. وإن كان الكاتب قد بدأ قصته بجملة افتتاحية باسم إلا أنه كثف من استخدام الفعل المضارع مما أعطى القصة الفاعلية والحيوية، وكأن الأحداث تجري الآن.
ومن الأمثلة الأخرى على التناص، قصة الكاتب محمد دريوش "خرس":
"طلب من شابلن أن يؤدي دور البطولة بشريط سينمائي لمخرج هوليودي كبير، أغروه بأجر خيالي، هز حاجبيه، نظر إلى الكاميرا، و أكمل مشهده الأخير من فيلمه عن المكننة...
هو لم يتعلم بعد لغتهم... الصمت هو الكلام الوحيد الذي يتقنه...".
فمن خلال شخصية الممثل الشهير شارلي شابلن، استطاع الكاتب دريوش الوصول إلى ما يريد بأقل الكلمات. ففي هوليود مخرج كبير يريد أن يستغل شابلن في أداء دور في أحد أفلامه، غير إنه يرفض هذا الإغراء مفضلا أفلام الصمت المعبرة عن أفكاره على أفلام ليس من وراءها غير الربح الفاحش دون الالتفات إلى رسالة الفن الخالد.
ولا بد للقصة كي تكون ناجحة، وتحقق غايتها أن تمتاز بالتجريد والعمومية، فالابتعاد عن تحديد الانتماءات ينقل القصة إلى الكونية "مشاركا في الأبعاد الوجودية العامة، نص يمكن التفاعل معه ضمن دوائر قرائية عالمية. من هنا لا تكون القصة القصيرة جدا نصا عبر نوعي فقط، بل نصا "عبر حضاري" أيضا، إذا صح التعبير". (باسيليوس حنا بواردي. مرجع سابق)
تقول الكاتبة روزا البغدادي في قصة "خوف":
"تخيم العناكب في غرفتها، كان كل خوفها أن يزحف الفقر إلى قلبها مجدداً، تقف أمام مرآتها مكتوفة الحواس، شهقت باسمه فأزهرت روحها".
القصة هنا لا تحدد انتماء المرأة ولا هويتها، بل تشير إلى حالة المرأة الوجودية، قصة تركز على بساطة الإنسان، وسعيه للعيش بعيدا عن الوحدة، فغرفة المرأة المهجورة لدرجة أن العناكب نسجت شباكها في زواياها، وخوفها من الجدب العاطفي، جعلها تبحث عن نصفها الأخر، لأن لا حياة حقيقة دون الرجل بالنسبة لها، ولا تزهر المرأة وتكون بلا رجل، فهما زوجان لا يمكن انفصالهما وإلا انشطرت حياتهما.
لقد ولج هذا النوع الأدبي الكثير من الكاتبات، وأخذن موضوعاتهن من المجتمع ونقدنه فكتبن عن واقع المرأة العربية والظلم الذي تتعرض. غير إن الكاتبة رشيدة  خيزيوة في قصتها "سمفونية الرصاص" تناقش موضوع الحرب وأثرها على الإنسان، تقول:
"ولد وصوت الرصاص يدوي في بلده، والقذائف مازالت تقلق مسامعه، ذهب للمدرسة... فالجامعة ومازالت المدرعات تقطع عليه الطريق... مل من الخناق و صوت الرصاص، قرر الهجرة ..نفذ علّه يستريح... كان ليله طويلا في ذلك البلد، لم يغمض له جفن، الهدوء كان مميتا... جفاه النوم، نهض أشعل التلفاز وأبحر عبر القنوات، عثر على فلم يعلو دوي الرصاص فيه على صوت الممثلين... عاد لفراشه وغط في نوم عميق...!"
فالإنسان العربي الذي يعيش في الفقر والمرض والجهل زادت عليه الحروب الداخلية والخارجية أعباء الحياة. فمن لحظة ولادته لا يسمع إلا صوت الرصاص ولا يحيا إلا في ضيق وشعور طاغي بالقلق والخناق، لذا يقرر بطل القصة الهجرة ليجد طريقه الضائع في الحياة، وتكون المفاجأة إنه أصبح كالسمك لا يستطيع العيش بدون ماء، فهو بعد أن حقق مبتاغه في السفر نبعت له مشكلة جديدة، ألا وهي الإدمان على صوت الرصاص وقصف المدافع لذا نراه يتقلب في نومه ولا يفلح في الغرق بالنوم إلا وهو يشاهد فلما عنيفا عن الحرب...
الوطن دائم الحضور في القصص العربي، والحديث عن الغربة والاغتراب، والبحث الحثيث عن لحظات فرح في خضم البؤس الكبير في وطننا المبتلى بالاستبداد والظلم. وهذا ما نلمسه في قصة أيمن دراوشة "اثنانِ على الدَّرب"، فيقول فيها:
"كان عائداً من سفره مشتاقاً للأهل والوطن، وعند بوَّابة المطار استقلَّ الحافلة قاصداً دربه، وجلست  بقربه  فتاةٌ حسناء، فاعتقد أنَّها جاءت من نفس البلدة الَّتي جاء منها، وكان صاحبنا بحاجةٍ لمن يتحدَّث معه، فبادلها الحديث...
وأصبح الحديث عن هموم الغربة وآلامها، فطال الحديث، وقصرت المسافة، وعند وصول الحافلـة إلى موقفها الأخير ذهب كلُّ واحـدٍ منهما في طريقه، وعندها تذكَّـر أنَّه لم يسألها عن اسمها...".
فحتى في لحظات المسرة لا يجد العربي ما يتحدث عنه غير الغربة والألم والوطن الموبوء الذي يدفع أبنائه إلى الهجرة. فشعور الوحدة والغربة والحاجة إلى أن يسمع دفعت بطلنا إلى بداية علاقة مع فتاة جميلة... وفي لحظات الاستمتاع القليلة التي يحس بها المواطن العربي تجعله ينسى أشياء كثيرة، وجاءت نهاية القصة بشكل سلس كبدايتها التي بدأت بجملة فعلية، مما وهب القصة الحركة الانسيابية والنمو لتصل إلى نهايتها المفاجأة بكثير من البريق، فالفتاة نزلت في محطتها تاركة بطلنا في ذهول، فهو لن يراها مرة أخرى لأنه لا يعرف حتى اسمها.
وكأن المواطن العربي ليس لديه القدرة على الاحتفاظ بلحظات الفرح والسرور طويلا.
وكون القصة القصيرة جدا "تتميز بإيقاع سريع في أحداثها، القليلة نسبيا، فإن الاعتماد على النهاية المفاجئة هو الذي يجمع هذه الأحداث في محصلة ناجعة، تنقل فكرة القصة إلى الملتقي بقوة". (وليد أبو بكر. "فن القصّة القصيرة جدا: من التبعيّة نحو الاستقلال". في القصة القصيرة جدا. مرجع سابق. ص 19-48)
وهذا ما نراه في قصص الكاتب أيمن دراوشة، ففي قصة " نصيبٌ" يقول:
"ربح الجائزة الأُولى في اليانصيب، فاشترى قصراً، ووضع فيه الخدم، وتزوَّج مرَّةً أُخرى، وعندما صحا من نومه تذكَّر أنَّه تأخَّر عن عمله بسبب حلمٍ لن يتحقَّق أبداً".
ونرى هنا موضوع الفقر والبؤس متداول جداً في القصة القصيرة جدا، فالأدب ولا شك يعكس واقع المجتمع، غير إن الكاتب اختار هنا البطل السلبي، الذي يهرب من مشاكله ومصاعب الحياة، فهو يربح الجائزة الكبرى في اليانصيب ويحقق أحلامه جميعاً غير إنه لم يكن سوى بائس وحالم يتأخر عن عمله في مطاردة أوهامه.
وكذلك في قصة هداية مرزق "مشهد أسود" تقول:
"تسارعت دقات قلبها وهي تراه من بعيد، تحركت يدها لتصلح من هندامها، وتبعث النشوة في خصلات شعرها الفاحم، لوح مبتسما، ومر مسرعا دون أن يراها... التفتت لترسم مشهد لقائه بلون السواد"... .
لا يستطيع القارئ أن يخمن خاتمة القصة، فهو يتوقع إن الفتاة في انتظار حبيبها، و تتهيأ لاستقباله في أبهى حلة، قبل أن يكتشف أنه بصدد حب من طرف واحد، وإن هذا الحبيب المفترض لا يشعر بوجود الفتاة، بعكس ما أوحت به مقدمة القصة الناجحة، والتي بدأت بفعل يدل على الحركة مما أعطى التشويق والتوتر للقارئ.
ورغم أن القصة القصيرة جدا، تعبر عن فكرة واحدة، إلا إنها تحفز القارئ على تشغيل عقله ومحاولة فهم ما يرمي إليه الكاتب حتى بعد أن ينتهي من القراءة، ففي قصة "خط" يقول الخطَاب المزروعي:
"كان يرسم خطّا أحمر في غرفته المغلقة، تلطخت يداه كثيرا تلك الليلة، وبقي داخل غرفته محاطَا بالخطوط الحمراء". ( الخطّاب المزروعي. "سيرة الخوف". بيروت: منشورات دار الانتشار العربي، ط1. 2014. ص13)
ففي كلمات معدودة يخبرنا الكاتب عن إنسان يعاني التشظي والخوف والرعب من الاختلاط بالخارج، فهو يعيش في غرفة مغلقة، وليس ذلك وحسب، بل إنه يسجن نفسه داخل قوانينه الخاصة ولا يسمح لنفسه بتخطيها، فهذا الإنسان المأزوم يعاني ويتألم، وهو ضعيف وهش وغير قادر على مواجهة الحياة، لذا يهرب داخل نفسه، ويحيطها بالأسوار لأنه لا يستطيع القتال من أجل الحياة.
وعن أمراض الإنسان النفسية، تكتب الكاتبة إيمان مرهون، فشخصية قصتها إنسان مغرور، ويشعر إنه يملك الدنيا، غير إنه فارغ من الداخل، وعقله خواء، تقول في قصة "قيء":
"يمشي مختالا، ينظر إلى البشر كأنهم قذارة...يعيش وحيدا ولا يخالط أحدا..كأنه من جنس راقي وهم بهائم أو عدم...وفي أحد المرات عندما صادف مرآة لم يتعرف على شكله فبصق عليها...". (إيمان مرهون. "الانطولوجيا العربية للقصة القصيرة جدا بصيغة المؤنث". إعداد سناء بلحور. دمشق: النايا للدراسات والنشر والتوزيع. ط1. 2014م. ص 31)
هذه الشخصية المعقدة، وإن بدت قاسية ومتصخرة، إلا أن القارئ في النهاية، سيقف ويفكر، ويعرف إن الشخصية هنا تعاني وتتألم، وإن عدم مخالطة الناس قد تكون بسبب آخر غير الكبر والخيلاء وجنون العظمة، بل من ظروف صعبة عانتها الشخصية في مراحل حياتها، لذا نقمت على المجتمع ومن فيه، وتصل بها المرارة والجنون إلى عدم معرفة حتى ذاتها، فتحقرها، فلا يبقى للشخصية غير النهاية المفجعة.
ولا يستطيع الدارس للقصة القصيرة جدا في الوطن العربي أن لا يتحدث عن الكاتب الفذ والموسوعي مصطفى لغتيري الذي أبدع في مختلف صنوف الأدب، وفي قصصه العميقة والمكثفة يلجأ لغتيري إلى اختيار شخوص قصصه من مملكة الحيوانات، ففي قصة "وصية" تكون شخوصة من القرود، فيقول فيها:
"حين أزف أجل القرد العجوز، جمع من حوله أبناءه وأحفاده، ثم أوصاهم قائلا :
 -
كونوا دوما أقوياء و ماكرين، فالأرض، أبدا، لن يرثها الطيبون".
في هذه القصة يأخذنا الكاتب بكلمات موجزة ومحكمة بحيث لا يمكن الاستغناء عن إحداها إلى عالم الحيوان ليسقطه على عالم الإنسان، فيوصي القرد الكهل ذريته بأن يكونوا أقوياء وأشداء وقادرين على المناورة لأن الحياة قاسية ولا مكان فيها للضعفاء والبؤساء، وفي تناص مع القرآن الكريم جاء في محله تماما، يقول إن الطيبون سوف يعيشون في ضنك العيش ولن ينالهم سوى الألم والقسوة، فعلى "القرد" أن يكون قويا لتهابه الحيوانات الأخرى ويحجز مكانه على الأرض ويكون فاعلا لا مفعول به، وهي دعوة مبطنة للثورة على الأوضاع المزرية التي يعيشها الإنسان العربي.
وفي تجربته الجديدة في القصة القصيرة جدا، المليئة بالفنتازيا والغرابة، حيث تدور حكاياتها داخل الحلم. يقول محمود شقير في قصة "عتاب"
"طفنا في حلمنا أسواق المدينة، ثم رأيتك تدخلين الكنيسة بخطوات رزينة، ورأيتك تصلين. سألتني: لماذا لا تصلي؟
اقتربت منك وصليت. ثم رأيتك تدخلين المسجد بخطوات رصينة، ورأيتك تصلين. سألتني: لماذا لا تصلي؟
دنوت منك وصليت. ثم خرجنا معًا إلى فضاء المدينة، ورأيتك تشعرين بالتعب. سألتني: لماذا لا تحملني على كتفيك؟ 
طوقت خصرك بيدي وحملتك، ومضيت بك داخل السور وخارجه وأنا أحمل جسدك المتين، وأنت مسترخية لاهية لا تتكلمين". (الجسرة الثقافية الإلكترونية. تاريخ 1-4-2015م)
أحداث القصة تسير بسلاسة كنهر مندفع باتجاه الانعتاق، فالقصة تتحدث عن القدس، التي يحملها الكاتب في وعيه وفي لا وعيه أيضا، وتعبر عن وحدة الأديان فشخصيات القصة تصلى في الكنسية والمسجد، إذ في القدس يتلاحما، في حلمه يحقق الكاتب ما يعجز عن تحقيقه على أرض الواقع المليئ بالألم والمرارة النابعة من تصرفات المحتل، الذي يحرق الاماكن الدينية، ويذبح الشجر، ويتفنن في قتل الإنسان، وفي تعذيبه ومنعه من حرية الحركة. في الحلم يمكن للشخصية أن تتجاهل الاحتلال وتنطلق في كل مكان، داخل أسوار القدس العتيقة، وخارجها، في الحلم المشتهى لا وجود للاحتلال ولا للقمع والعنف، في الحلم حرية، واستنشاق الرائحة الذكية القادمة من اعماق التاريخ.
تناولت بعض القصص التي اعتبرتها ناجحة في هذا النوع الأدبي الجديد، وحققت اللذة والمتعة مما يدفع القارئ إلى متابعة القصة حتى النهاية. ومن خلال قراءتي للكثير من النماذج، فإنه يمكن القول إن على الكاتب في هذا النوع من الأدب الابتعاد قدر الإمكان عن الوصف إذ إن حجم القصة لا يحتمل ذلك، كما أن الوصف يشعر القارئ بالملل والضجر ويجعله يتوقف عن القراءة. وكذلك الابتعاد عن الاستعراض واستخدام الألفاظ الغريبة غير المفهومة لأن القارئ سيشعر إن الكاتب يحاول إثبات إنه صاحب ثقافة متشعبة، وهو لا يهتم سوى بما شعر به من لذة من القراءة، وكيف أثرت به؟
وعن الصياغة اللغوية، يقول الكاتب محمود شقير، إنه لا يحبذ استخدام اللغة الشعرية المفرطة في القصة القصيرة جدا، ويفضل استعمال لغة سهلة من لغة الحياة اليومية، وإنه لا يرى ما يمنع من "الاستعانة بالسخرية والفانتازيا والسوريالية في السرد القصصي، على ألا يصل ذلك حدود المبالغة أو الإفراط". (محمود شقير. في القصة القصيرة جدا. "شهادة: أنا والقصة القصيرة جدا". مرجع سابق. ص 67-80)
وفي النهاية، يقول جاك بيكهام في كتابه "أكثر 38 خطأ في الكتابة القصصية": إن القصة تكتب على حافة الهاوية، وإن على الكاتب أن لا يختبئ من مشاعره.
إن كتابة القصة وظيفة ليست سهلة بل صعبة وشائكة، وتحتاج إلى مهارات وأساليب ليس بإمكان الجميع تحصيلها. إن القصة القصيرة جدا بشكلها المكثف وإشعاعها البرقي أصبحت حاجة محلة للتعبير عن مكنونات النفس البشرية، وما يجري في المجتمع من تغيرات. إنها ببساطة تغني تجاربنا وخبراتنا في الحياة، وتشعرنا باللذة، وتحفزنا على التأمل في ذواتنا وفي ما حولنا من ظواهر وأحداث.
 
·  القصص غير الموثقة، مأخوذة من صفحات الكتّاب عن الفيس بوك.