الإثنين  25 تشرين الثاني 2024
LOGO
اشترك في خدمة الواتساب

تكنولوجيا المستقبل في العقد القادم بقلم: عبد الغني سلامه

2015-07-20 01:21:00 AM
تكنولوجيا المستقبل في العقد القادم
بقلم: عبد الغني سلامه
صورة ارشيفية

في الفيلم الوثائقي الذي أعده "عدي الطويسي"، ونشره على موقعه، تناول مسألة تغوّل التكنولوجيا على الإنسان وافتراسها له، محذراً من تحوله عبداً لها، بعد أن صنعها بيديه لخدمته. يقول "الطويسي" في بداية الفيلم: "في كل يوم جديد تقدم لنا الحياة عشرات الفرص، تعطينا إياها بأشكال متعددة، وتحاول جذب انتباهنا بشتى الطرق، ربما من خلال كتاب، دعايات، أفلام، مواقع إلكترونية، مقالات، أخبار، ماركات تجارية، عروض، تنزيلات ... تُعرض هذه الفرص خلال مدة معينة، تدعى "مدة انتباه العقل"؛ وهي الفترة القصيرة التي تسترعي انتباه الإنسان، وتجذبه نحو شيء معين، وخلال هذه الفترة الوجيزة عليه أن يتخذ قراره بقبول ما هو معروض أمامه أو تجاوزه، وهي تبلغ حاليا 4 ثواني فقط، بعد أن كانت قبل عدة سنوات (2010) ثمانية ثواني، وكانت قديما تبلغ ساعات أو أيام، وربما سنوات .. وسبب تقلص هذه الفترة هو ازدحام المعروضات أمام العقل وكثرتها، والتنافس الشديد فيما بينها".

وبالطبع؛ فإن هذا التنافس الشديد بين المعروضات التي لا عد لها ولا حصر هو نتاج طبيعي للتطورات الهائلة التي أحرزها الإنسان على مدى عصور طويلة ومتلاحقة، وبالذات بعد الثورة الصناعية، كان دافع الإنسان وديدنه خلالها تلبية احتياجاته اللامتناهية من ناحية، وتحقيق الربح للمنتجين من ناحية ثانية، ربما أنه أراد تحقيق الرخاء والسعادة من خلال الثورة التكنولوجية، لكنه في ذات الوقت كان يقع في شراك هذه التكنولوجيا، ويتحول أسيرا لها شيئا فشيئا.

وقد زعم أبرز منظري الرأسمالية "آدم سميث" أن المنفعة العامة هي حصيلة المنافع الشخصية، إلا أن تحقيق المنافع الشخصية (أو العامة) من خلال التقدم التكنولوجي أدى إلى طرد الإنسان من خطوط الإنتاج، وجعل منه زائدة لحمية لا حاجة لها في نظام المسننات والآلات الرقمية، ومع زيادة الأتمتة تفاقمت البطالة وتضخم الإنتاج، ومعه تضخمت الطبقات الثرية وازدادت الفجوة بين الطبقات اتساعا، فنشأ في قلب هذا النظام المتوحش طبقات من المسحوقين والبؤساء.

ومع كل تقدم جديد في عالم التكنولوجيا، كانت البشرية تجد نفسها في مواجهة واقع جديد ومختلف، فيه الكثير من السلبيات والإيجابيات؛ الجيل الجديد من الثورة التكنولوجية والذي تمثَّل في الإنترنت وضع العالم بأسره على أعتاب مرحلة جديدة تختلف كليا عن أي مرحلة سابقة، وصلت إلى الحد الذي مزجت فيه بين الواقع الحقيقي والعالم الافتراضي، وتركت بينها حدودا بالكاد تُرى.

وقد انتشرت تقنيات الإنترنت بسرعة غير مسبوقة وبفترة قياسية، الأمر الذي تطلب سن القوانين والتشريعات التي تنظم وتتحكم بهذه التكنولوجيا الرهيبة، تعتمد تلك التشريعات في إحدى ركائزها على منح كل جهاز كمبيوتر عنوان محدد يعرف بِ IP، من خلاله يتم تحديد هوية الجهاز ومستخدمه، الإصدار الحالي لتشريعات الإنترنت IP v4 بدأ ينضب، ولم يعد قادرا على مواكبة الانتشار الهائل لمستخدمي الشبكة العنكبوتية، وبالتالي صار لزاما على الحكومات والشركات العملاقة التي تنتج وتبيع خدمات الإنترنت أن تنجز إصدارا جديدا يلبي الطلب المتزايد على الشبكة ويستخدم تطبيقات جديدة ثورية، من المتوقع أن يكتمل بعد خمسة سنوات، وسيحمل اسم IP v6، سيعتمد هذا الإصدار على مضاعفة قدرة "الريسفرات" العالمية بحيث تستوعب ترليونات الأجهزة، وهذا سيتيح الفرصة لمنح أي شيء IP، سواء كان جهاز كمبيوتر، هاتف نقال، تلفزيون، أي جهاز إلكتروني، أو كهربائي، رصيف، حيوان، شجرة، متجر، سيارة، بما في ذلك الإنسان نفسه، وهذا يعني أنه ستكون هنالك شبكة إنترنت عملاقة قادرة على دمج وتوصيل كل المكونات معاً وبسرعات فائقة، من جمادات وحيوانات وبشر وأجهزة .. وهذا الجيل الجديد يسمى إنترنت الإشياء Internet of Things واختصارا IOT.

في المستقبل سيتم حقن كل إنسان بمجس متناهي الصغر، يحدد له IP معين، ومن ثم ربطه إلكترونيا بمحيطه وبكل ما هو حوله (الذي سيكون محقونا هو الآخر بمجس)، سيكون البيت وأجهزته وأثاثه من الذكاء بحيث تكون قادرة على فهم متطلبات واحتياجات الإنسان، وكذلك في مكان العمل، في الشارع .. هذا التطور، وإن بدا مريحا وواعدا، إلا أنه ينطوي على مخاطر جسيمة، أبرزها سلب إنسانية الإنسان، وجعله امتدادا للأشياء التي من حوله، أي أنه سيصبح مجرد شيء دون مضامين روحية وقيمية، وسيتحول إلى "مجس" يتفاعل مع "المجسات" المحيطة به، وهذا سيقود حتما للمرحلة التالية وهي انتهاك خصوصية الإنسان، وجعل كل المعلومات الخاصة به متاحة للجميع.

ومن ناحية ثانية، فإن هذا الذكاء الإصطناعي الذي يفوق الذكاء الطبيعي للإنسان سيؤدي إلى تقليص اعتماد الفرد على دماغه، والاعتماد بدلا منه على ذكاء الأجهزة التي يستخدمها، مثال ذلك ستتقلص قدرته على الحفظ وعلى البحث والتفكير، لأنه سيلجأ للتخزين في ذاكرة الأجهزة بدلا من ذاكرته الشخصية، وسيلجا إلى محركات البحث التي ستكون هي الأخرى قد قطعت شوطا طويلا في مسلسل التطور.

الخطر الآخر الذي ستجلبه التكنولوجيا المتطورة الخارجة عن أي سيطرة، يتمثل بما يسمى الإشارات أو الرسائل الضمنية، وهي تسجيلات صوتية غير مسموعة، بموجات أقصر من مدى السمع الاعتيادي، أو هي صور تمر بسرعة شديدة فلا تدركها الأبصار .. هذه الإشارات الخفية تستقبلها مجسات الإنسان الطبيعية وتؤثر مباشرة على العقل الباطن، وتوجهه سلباً أو إيجاباً حسب نوعية الرسالة، وهي تقنية متبعة من قبل أجهزة المخابرات، ومن الممكن استخدامها لبث رسائل ضمنية تجاه مجموعات معينة بهدف السيطرة عليها، أو التحكم بتصرفاتها.

صحيح أن قضية انتهاك الخصوصية، والرسائل الضمنية، و"تشييء" الإنسان من القضايا المطروحة الآن بقوة، لكنها في المستقبل ستصبح أشد خطراً، أي بعد الوصول لمرحلة الانتشار الكلي لتقنيات الإنترنت الحديثة والأجهزة الذكية والأسطح الذكية، والعوالم الرقمية، وبالتالي فإن المثلث الذي يضم الإشارات الضمنية، والذكاء الإصطناعي، وانعدام الخصوصية سيجعل الإنسان في مركزه، وسيجعل من يسيطر على شبكة الإنترنت يتحكم بالإنسانية جمعاء، وسيحكم العالم بأسره.

العقد القادم سيكون عبارة عن فاصل تاريخي بين الحاضر والمستقبل، والفاصل التاريخي عبارة عن مرحلة تاريخية تُحِدث بوناً شاسعاً بين المرحلة التي سبقتها والتي تليها، بحيث لا يمكن الرجوع عنها، ومن البديهي أن لكل مرحلة تاريخية جملة من المفردات والأدوات الخاصة بها، تختلف كلياً نظيراتها في المراحل الأخرى، ما يعني أن كل التقنيات التي نشهدها اليوم ستكون عبارة عن مخلفات تاريخية، سيكون مكانها المتحف، تماما كما فعلنا بتقنيات عصر الآلة البخارية.

 اليوم، نحن جميعا أسرى التكنولوجيا الرقمية، نعاني من تداعياتها وآثارها السلبية على الحياة الاجتماعية والتماسك الأسري، وإذا واصلنا المسير على نفس الدرب، فإن المستقبل سيجعل من الإنسان عبارة عن معادلة رقمية، وربما يكون فاقدا لأي قدرة على التحكم بالتكنولوجيا التي صنعها بنفسه.