الحدث - محمود الفطافطة
بدأ الإعلان عن المسيرة التفاوضية بين العرب والإسرائيليين، بشكلٍ رسمي، في مؤتمر مدريد المنعقد في الثلاثين من شهر تشرين أول 1991 وإن كانت ذيولها ممتدة إلى سنوات طويلة قبل هذا التاريخ. هذه المسيرة لازمها الاعتلال منذ نشأتها، ولا يزال، فقد استطاعت إسرائيل برعايةٍ أمريكية كاملة أن تنتهز فرصة الضعف والانقسام العربي لتمرر وتفرض شروطها التي قضت، فيما قضت إليه، بتفتيت العرب إلى موائدٍ تفاوضية منفصلة؛ مجردة من فن التفاوض وغنى الدلائل ومتانة الوثائق.
وبما أن المفاوضات تقوم على حسابات دقيقة لميزان القوى والمصالح في الوقت الذي كان فيه العرب والفلسطينيين مجردين من إسناد ذاتهم، أو توفير الدعم من خارج إطارهم (الإقليمي والدولي) فإن إسرائيل استطاعت أن تنفرد بهم منذ بداية هذه المسيرة المحملة بخيوط التعثر إلى حد الانقطاع حيناً وبرواسب الغموض إلى حد التشكيك أحياناً. فالعرب دخلوا مؤتمر مدريد وميزان القوى يميل إلى مصلحة إسرائيل بشكلٍ واضح وكبير. هذا الخلل الذي تمظهرت تجلياته من خلال ميزان القوى العربي ـ الإسرائيلي اتسم بظواهر ثلاث، أولها امتلاك إسرائيل لصناعة حربية حديثة ومتطورة ومتفوقة، وثانيها احتكارها للسلاح النووي في المنطقة، في حين تمثل المظهر الثالث في تحالف الدولة العبرية مع الولايات المتحدة الأميركية عبر شراكة استراتيجية عميقة الجذور، متنوعة الأسباب والمجالات.
جدلية الفعل والموات!!
وبما أن هذه المسيرة يصيبها "التعثر" إلى حد التجمد في الوقت الراهن، فإن هذا التقرير سيسلط الضوء على الإجابة عن سؤال رئيس هو: كيف يرى الفلسطينيون العودة إلى طاولة المفاوضات مع الاحتلال؟ وانبثاقاً من هذا السؤال سيجيب التقرير على جملة من التساؤلات الفرعية أهمها: هل يملك طرفي الصراع الإسرائيلي والفلسطيني رؤية للتسوية السياسية أو خياراً تفاوضياً حقيقياً؟ من هو المسبب الرئيس لتعثر هذه العملية التفاوضية، هل هي إسرائيل، أم الفلسطينيين،أم الولايات المتحدة،أم أطراف أخرى؟ هل ترى إسرائيل مصلحتها الاستراتيجية في إعادة المسيرة التفاوضية إلى الفعل من جديد، أم تفضل طرق وسياسات غير ذلك؟ ما مدى تأثير الانقسام الداخلي الفلسطيني على واقع ومستقبل التسوية السياسية؟ وهل يمكن استشراف مستقبل هذه المسيرة التي وفق نتائجها ستتحدد خريطة ومسار الصراع العربي، الفلسطيني ـ الإسرائيلي، وبالتالي حاضر ومستقبل منطقة الشرق الأوسط والعالم على وجه العموم.
تعددت الآراء وتباينت المواقف إزاء مفهوم ما تم ويتم من حوار ولقاء بين الفلسطينيين من جهة، والإسرائيليين من جهة ثانية. فالسياسي المصري الراحل أسامه الباز كان يرى أن ما يجري هو عملية تفاوضية، هدفها تحقيق السلام والاستقرار لشعوب المنطقة بينما يوجد وجد الأكاديمي الفلسطيني وليد الخالدي أن ما يحدث لا يمكن إطلاق وصف "العملية التفاوضية"، عليه لأنه لم يكن حواراً ندياً أو متوازياً في القوة والإمكانيات وتلبية الالتزامات منذ الأصل، في حين يرى الباحث عوني فرسخ بأن هناك فريق لا يؤمنون بوجود تسوية سلمية لاعتقادهم أن حلقات هذه التسوية ما هي إلا دوائر استسلام لإسرائيل دون قيد أو شرط، وكأنها مشروع معاهدة تسليم من قبل العرب. وفي رأي الدبلوماسي الفلسطيني خالد الأزعر فإن هذه التسوية ماتت ودفنت ونسيت.
كذلك، هناك من يرى أن التسوية السياسية تعرضت لجملة تحديات كانت سبباً في تعثرها، ومن ثم إلى توقفها، أو انهيارها. وأولى هذه العوامل يذكرها القيادي في حركة فتح بكر أبو بكر، حيث يشير إلى أن صعود اليمين الإسرائيلي إلى الحكم في عام 1996 بقيادة بنيامين نتانياهو أخذ السراب الذي أحاط بهذه العملية يتبدد، وتأكد لمن كان لديه شك أن إسرائيل غير قادرة على تحمل أي عملية تسوية تنطوي على أدنى قدر من المنافع للطرف الفلسطيني، ناهيك عن التسليم بحقوقه المشروعة.
وثانيها يذكره المفكر برهان غليون في كتابه العرب ومعركة السلام، حيث يقول: "تعتبر الأسس التي قامت عليها هذه العملية التفاوضية، أقل ما يتمناه ويطلبه الشعب الفلسطيني فاعتراف إسرائيل في مبادئ الإعلان "أوسلو" كان اعترافاً بمنظمة وليس بشعب فلسطين. فكل فقرات هذا الاتفاق تتحدث عن الفلسطينيين وليس عن الشعب الفلسطيني، فهو لديهم لا يمتلك الحق في تشكيل كيانية سياسية مستقلة. وإلى جانب ذلك فإن لكل مبادرة سياسية كان لها هدفاً كبيراً من جانب إسرائيل وواشنطن وكأنها مشروع معاهدة تسليم".
وإلى جانب ذلك، هناك عوامل أخرى تذكرها بعض الأدبيات، أهمها: تشدد وتعنت الموقف الإسرائيلي. فإسرائيل لا تبغي سلاماً عادلاً، وإنما تبغي تسوية أقرب إلى" المباراة الصفرية" تحقق لها ما تريده وللفلسطينيين أقل القليل. تحقق لها الأمن حسب رؤيتها والاحتفاظ بالمستوطنات وبالقدس عاصمة أبدية لدولتها المصطنعة بينما على الفلسطينيين أن يكتفوا بدولةٍ مقزمة، مهيضة الجناح، محرومة من أسباب القوة، تسقط بها ومعها قرارات الأمم المتحدة المؤكدة على "حقوق الشعب الفلسطيني غير القابلة للتصرف ".إن القيادة السياسية في إسرائيل لا تؤمن بالسلام، بل تؤمن بإسرائيل الكبرى. وكذلك، الانحياز الأمريكي التام للطرف الإسرائيلي؛ ذلك أن ضمان بقاء وأمن تفوق إسرائيل يحتل باستمرار قمة أولويات السياسة الخارجية الأمريكية، إلى جانب الضعف العربي والأوروبي والعالمي في تحريك هذه العملية بعيداً عن الانحياز الأمريكي المطلق والعضوي لإسرائيل.
أساليب ومسلمات!
اتبعت إسرائيل في تفاوضها مع الفلسطينيين أساليب ومسلمات تعتبر أسوا التقاليد السياسية للحركة الصهيونية في التعامل مع الفلسطينيين والعرب عموماً. أهم هذه الأساليب يجملها الباحث محمد السيد سعيد في كتابه تأملات حول أسلوب التفاوض الإسرائيلي، وهي: 1.التمسك بقوالب تفاوضية جامدة حتى النهاية ورفض كل الضغوط الدولية أو وجهات الرأي العام العالمي، مع رفضها مشاركة الأمم المتحدة، لأن ذلك من شأنه التأكيد على الإطار المرجعي القانوني الدولي ذات الصلة.2. سياسة الامتناع عن التفاوض الجاد واستخدام التفاوض لإهدار الوقت، وتجنب الضغوط. 3. فرض الأمر الواقع على نحوٍ ظاهر بخصوص الموضوعات التي يجري حولها التفاوض. 4.فرض مزيد من التنازلات أثناء التفاوض حول الترتيبات الإجرائية والإدارية والأمنية. 5. إعادة التفاوض حول الاتفاقيات المبرمة بالفعل. 6. إحراج و"عصر" المفاوض الفلسطيني وهو ما يتم باستخدام تقنيات متعددة مثل تسريب الأخبار المتعلقة بالتفاوض، والمبالغة في التفاصيل وإطالة أمد التفاوض حتى حول ابسط الأمور بهدف انتزاع مزيد من التنازلات حتى آخر لحظة. 7. اتباع أسلوب تكتيك حافة الهاوية (التهديد بإنهاء أو انهيار المفاوضات إذا لم يقبل الطرف الفلسطيني بالتنازلات المطلوبة منه).
ومن الأساليب إلى المسلمات، حيث ارتكزت الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة على مسلمات في التفاوض مع العرب والفلسطينيين بحيث نجحت في إقناع الرأي العام الإسرائيلي، ومن ثم الدولي بهذه المسلمات والتي يجملها الباحث علي الدين هلال في دراسته" الجامعة العربية والسلام العربي الإسرائيلي" بالأتي:1. إن الصراع مع الفلسطينيين يدور على وجود الدولة وليس مجرد الانسحاب من الأراضي التي احتلتها إسرائيل في حرب حزيران.2. إن ما يجري ضد إسرائيل هو حرب حقيقية شاملة ضد الدولة والشعب اليهوديين؛ وبالتالي يتوجب محاربة العرب والفلسطينيين وعدم التسليم أو التنازل لهم بأي حال من الأحوال. 3. إن المفاوضات ليست هي الطريقة المثلى للتعامل مع الفلسطينيين والعرب. وأن اتفاق أوسلو قد أضر بأمن إسرائيل ومواطنيها.4. القوة المسلحة هي الخيار المناسب للتعامل مع الفلسطينيين والعرب ومن خلالها يتم تسوية الصراع وفق الرؤية التي تحقق بها إسرائيل أهدافها وتطلعاتها.5. إن أي تسوية سياسية لا بد من أن يسبقها فرض إرادة إسرائيل على الشعب الفلسطيني وتغيير القيادة الفلسطينية ووصول قيادة بديلة تؤمن بحق إسرائيل في الوجود وتعترف بقوتها وتقبل التفاوض وفق الأسس التي تحددها إسرائيل.
استحالة وعنجهية!!
وفق ذلك؛ يؤكد بعض الخبراء الإسرائيليين (كما يقول د. علي الجرباوي) على استحالة الوصول إلى مصالحة حقيقية مع الفلسطينيين بل وحتى مع العالم العربي في المستقبل القريب. وعليه؛ فإن وجود وضمان بقاء إسرائيل كقوة مهابة في المنطقة يتم ضمانه فقط بنفوذ قوتها العسكرية وقدرتها على ردع الفلسطينيين عن القيام بإجراءات عسكرية، وكذلك بقدرتها حسب الحاجة على أن تهزمهم وان تلحق بهم خلال ذلك خسائر وأضرار فادحة.
الباحث سري سمور يقول: "بسبب طول فترة المفاوضات وعدم إقامة دولة فلسطينية مستقلة وعنجهية الاحتلال لا يحبذ الفلسطينيون العودة إلى المفاوضات إلا وفق جدول زمني ونقاط محددة وأيضا عودة مشروطة بشيء إيجابي مثل الإفراج عن الدفعة الأخيرة من أسرى ما قبل أوسلو وتجميد الاستيطان وغير ذلك. أما النائب السابق برهان جرار فيرى أن الاحتلال لا يقدم شيئاً لشعبنا فسياسته هي الهيمنة والاستحواذ والنهب والسرقة، ومذكراً في هذا الخصوص بالآية القرآنية الكريمة " أم لهم نصيب من الملك فإذا ﻻ يؤتون الناس نقيرا".
الباحثة عفاف ربيع تذكر أن العودة أو الاستمرار في المفاوضات هي خدمة عظيمة للمحتل وشرعنته وإضعاف للحقوق الفلسطينية، مضيفة: " لو راجعنا أنفسنا منذ بدأ المفاوضات وحتى الآن ما هي المكاسب التي حصلت عليها دولة فلسطين؟ وما حصل عليه المحتل سنرى إننا نخدم المحتل يوميا في تثبيت عنجهيته وشروطه ونحن كمن يلهث وراء عظمه عفى عليها الزمن". وتتابع قائلة:” للأسف أصبحنا منقسمين ومتخاذلين وفي سجن وإحباط عالي ومع ذلك نحن من نركض وراء المحتل لمفاوضته على حق لنا عنده.. أصبحنا في قمة الضعف في نظر المحتل وبذلك انكسرت أسطورة المقاومة وضعف أصحاب الحق".
نهايات مكررة وتخبط رسمي!
الكاتب والمحلل السياسي علاء الريماوي يبين أن هناك حديث إسرائيلي متقدم نحو العودة للمفاوضات، تحت قاعدة تخفيف الاستيطان، تم التوصل إلى ذلك بعد جملة من اللقاءات السرية، المنهجية ذاتها منذ مدريد، والآليات ذاتها، والأشخاص ذواتهم، والأخطر أن السقف ذاته؛ دولة قابلة للحياة فيها حديث عن القدس الشرقية. وهذا يعني أننا نذهب إلى ذات البدايات، وسنصل إلى ذات النهايات. هذا الأمر (وفق الريماوي) يتطلب ضرورة تغيير القيادة القائمة لا سيما تشكيلة منظمة التحرير، وأهمية إيجاد آليات لضخ دماء ومنهجيات جديدة حتى نجد تغيير في التفكير السائد. "علينا البناء على تجربة المقاومة في غزة، وتحديد مسار تفاوضي مع امتلاك أدوات القدرة وبذلك قد نصل إلى نتائج طيبة"
الكاتب صلاح حميدة يقول: "بات الفلسطينيون يحفظون درس المفاوضات قبل أن تبدأ أي جولة من جولاتها، ويدرك العامة قبل الخاصة أنها مفاوضات (عبثية) لا جدوى منها، وأقر بذلك المفاوضون أنفسهم. العودة إلى المفاوضات تعبر عن حالة غير مبشرة، فصانع القرار الفلسطيني يعلن أن المفاوضات لا زبدة فيها، ويشدد في نفس الوقت بأنه لا خيار له سوى المفاوضات!! وبالتالي فإن العودة للمفاوضات ليست إلا محاولة لصناعة الوهم و لمنع الانفجار الشعبي لإعادة تدوير الفشل وتقديمه بطريقة يظن من يشارك في المفاوضات أنها جميلة". وحول البديل يذكر حميدة " البديل واضح ولا يحتمل التأويل، إعادة بناء البيت الفلسطيني المتمثل بمنظمة التحرير والمؤسسات التمثيلية بطريقة حرة، والتوافق بطريقة شبه الجماعية عل سبل الخلاص من مصيبة أوسل".
الكاتب طارق الشرطي يقول: "إن الحديث عن عودة الفلسطينيين إلى المفاوضات مع الجانب الإسرائيلي يبرهن من جديد على مدى سطحية وجهل وتخبط لدى القيادة الفلسطينية، فـكيف لها أن تفعل ذلك وهي مدركة تماما أن الجانب الإسرائيلي عبارة عن محتل مراوغ؟ ولا يمكن معه التوصل إلى حلول قد تعطي جزءا يذكر من حقوق الجانب الفلسطيني." ويضيف " أثبتت التجربة فشل النهج في الوصول إلى الأهداف المتمثلة بالحقوق الفلسطينية وأهمها قيام الدولة الفلسطينية وعاصمتها القدس الشريف من خلال التفاوض، نتيجة لتعنت وغطرسة المحتل.
تحايل وتوصيات
ويشير الشرطي إلى أن غياب دور دولي حقيقي وفاعل للضغط على إسرائيل وإلزامها بتطبيق القرارات الدولية وبنود الاتفاقيات يجعل من التفاوض مجرد مضيعه للوقت وإلزام للجانب الفلسطيني فقط بالوفاء بالتزاماته دون فعل ذلك على الجانب الإسرائيلي، خصوصا من رعاة عملية السلام وأهمها الولايات المتحدة المنحازة كليا لدولة الاحتلال. ويوضح: "أن ما يجري على الأرض من ممارسات إسرائيلية بحق شعبنا الفلسطيني من قتل وهدم وتشريد واعتقال ومصادرة للأراضي والتوسع الاستيطاني وغيرها من عنصرية الاحتلال لهو خير دليل على فشل وغياب أي بادرة لنجاح تلك المفاوضات العبثية، لذا، لا بد للقيادة الفلسطينية الإدراك مسبقا لهذا الأمر وعدم إنجاح سياسة إسرائيل باللعب على لحن المفاوضات والتي قد تمتد لعقود وربما لقرون دون جدوى فيما هي ماضية في تحقيق مصالحها وأهدافها. على القيادة الفلسطينية التوحد بكافة الأطياف والأحزاب ورسم الخطط والخيارات المتاحة للوقوف أمام هذا الاحتلال بموقف موحد وقرارات حاسمة قد تجدي نفعا بدلا من البقاء بالكذب على الذات وعلى الشعب بهذه المفاوضات والتي لا تسمن ولا تغني من جوع".
وبخصوص التوصيات، هناك شبه إجماع من قبل المتحدثين على أن اللقاء مع الجانب الإسرائيلي الآن غير ضروري، ولا يصب في الهدف الفلسطيني، لأن إسرائيل تريد من وراء ذلك التغطية على ممارساتها القمعية والتدميرية بحق الفلسطينيين وبنيتهم التحتية، وأن إسرائيل لا تملك رؤية للتسوية السياسية أو خياراً تفاوضياً حقيقياً، وإن العودة للمفاوضات دون توفر شروط جديدة ومناخ مختلف عن العهد التفاوضي السابق لن تفيد المصلحة الفلسطينية في شيء، إذ ستعود إسرائيل إلى ممارسة ابتزازها المعهودة. كما ويطالبون الطرف الفلسطيني المفاوض (في حال تم ذلك) بإمداد الشعب عبر القنوات الإعلامية بمجريات العملية التفاوضية، شريطة أن تكون تلك المعلومات صادقة، وبعيدة عن التضخيم والتهويل، كما حصل في المفاوضات السابقة، فضلاً عن إتباع آليات وأدوات مختلفة للحفاظ على ما تبقى من الأرض الفلسطينية دون إغراق الشعب والقضية في مسارات التيه والمجهول مرة أخرى.