"زمن شقاليبو" مصطلح باللهجة العامية سمعته في العقد الأول من عمري من صديق لوالدي عرف بأسلوبه التهكمي. والحقيقة أن المصطلح قد أثار فضولي في حينه فتخيلت كل شيئ مقلوب على رأسه بما في ذلك الناس والأشياء والساعات وكان المنظر الخيالي في ذهني الطفولي آنذاك ممتعاً ومشوقاً ومنطقيا في بعض الأحيان. ورغم أني أدركت المعنى الحقيقي للمصطلح بعد سنوات، إلا أنني لا زلت أتخيل العالم مقلوباً على رأسه حين يخطر ببالي هذا المصطلح أو عندما أراقب مشهداً يجسده.... في الآونة الأخيرة، حضر مشهد الشقلبة هذا كثيرا وأكد أزمة المنطق والمصداقية التي نواجه كمجتمع في مناحي مختلفة من الحياة. التالي أمثلة وغيض من فيض....
مشهد رقم 1:
بينما يقف الزبون بانتظار دفع ثمن مشترياته، يتبادل أطراف الحديث مع صاحب المتجر الصغير ويتفقان أن "النظام والقانون بس عند اليهود" وأننا مظلومون لأننا نعيش في بلد يرفض فيهأولي الأمر أن يفرضوا النظام حسب قولهم. ويختتم الاثنان الحديث بالقول "كله عالفاضي. انسى! عمره ما بيصير نظام عندنا"... وبعد بضعة ايام، يقف صاحب المتجر مع زبون آخر ويدور الحديث التالي:
-صاحب المتجر: يا زلمة مش معقول، هلا اجى على بالهم يطبقوا النظام! ما لقوا غيري أنا يطبقه علي؟! بعدين هذا الشارع ما بيصير يعملوه اتجاه واحد لأنه داخلي وكبير وأصلا كان في عشرة غيري مخالفين، ليشخالفونيأنا؟
- الزبون (وهو رجل بلغ من العمر عتياً ويوحي بأنه أستاذ متقاعد أو ما شابه): اصلاً هذا مش نظام، هذا فساد. كأنهم بياخدوا عمولة!أنا كمان خالفوني لأني واقف على الاحمر والسيارة الي قدامي لا. هم لو يطبقوا القانون على الجميع بنقول ماشي بس مش خيار وفقوس!!
- زبون اخر مندهش يسأل الزبون المستاء ما إذا تم مخالفته وهو داخل السيارة وما اذا كان سائق السيارة الأخرى داخلها أم لا ليكتشف أن الزبون المعترض كان قد أوقف سيارته في مكان مخالف وذهب لقضاء حاجياته بينما لم يكن لديه اجابة وافية حول السيارة الاخرى المزعومة للرجل "الواصل" المزعوم الذي بحسب ادعاءه أفلت من المحاسبة. ثم يخرج ذات الزبون المستاء والمعترض على عدم تطبيق القانون على الجميع ويستقل سيارته الذي اوقفها بالعرض لتحتل مكان ثلاث سيارات وعندما سئل عن هذه المخالفة قال: انا والله ما كنت بعرف انه مخالف أصف هيك!
مشهد 2:
حركة حماس تدق الطبول وتعزف المزامير ويصيح الناطقون باسمها ويقولون: "عباس رئيس فاقد للشرعية ومنظمة التحرير منظمة تنسيق مع الاحتلال وفاقدة للشرعية"، واصفين الدعوة لتشكيل حكومة وحدة وطنية بأنها "انقلاب على اتفاق المصالحة" ثم يدعو أحد قياديهاجميع الفصائل إلى تشكيل حكومة وحدة وطنية!
مشهد 3:
يتوعد القياديون والعسكريون في حركة حماس الاجهزة الامنية الفلسطينية بالعقاب والمحاسبة لانها وبحسب بيانات التهديد "تعتقل المقاومين". وفي الاثناء، تحدث تفجيرات واشتباكات في قطاع غزة الخاضع للسيطرة الحمساوية وتتناقل وسائل الاعلام بيانا من السلفيين والمؤيدين لداعش في غزة يتوعدون حماس بالويل والثبور وعظائم الامور ردا على "ملاحقتها للمقاومين المجاهدين" وتقول انها ستستهدف اسرائيل بالصواريخ اذا لم تطلق حماس سراح اعضائها المسجونين لدى الحركة! جدير الذكر أن هذا التهديد الذي ينم عن حول في البوصلة والرؤية لم يحظ ولو بتعليق في الصحافة المحلية.
مشهد 4:
يكتظ المسجد الاقصى بالمصلين والزوار خلال شهر رمضان وتتداول وسائل الاعلام المحلية الأخبار الترويجية الاسرائيلية فتتحدث عن "التسهيلات" الممنوحة لنا من الاحتلال بمناسبة الشهر الفضيل والمتمثلة بدخولنا للقدس التي يقر العالم جميعاً أن لا حق لإسرائيل في منعنا عنها باعتبارها جزءاً أصيلا من الأرض الفلسطينية التي احتلت عام 1967. في ذات الوقت، يغضب البعض على الاعلام الاجنبي "لترويجه الدعاية الاسرائيلية" من خلال الحديث عن التسهيلات الاسرائيلية!
مشهد 5:
في صلاة العيد، توافد الاف المصليين الى المسجد الاقصى وبعد انتهاء فصول العبادة، يفاجئ البعضأن هناك من حشد الجماهير واستقدم الالاف للصلاة ليس بغاية العبادة او التأكيد على هوية الاقصى بل حتى يتظاهر هؤلاء دعما لجماعة الممول السياسية ويرفعون شارته خدمة لصراع داخلي في بلد عربي شقيق قدم آلاف الشهداء والجرحى دفاعا عن فلسطين. ذات الممول المروج ينفق ساعات على الاثير وهو يستصرخ "الأمة" ويتساءل لماذا لا يوجد من الاخوة من يدافع عن القدس بينما لم يسجل أن حشد هذا الممول الالاف لرفع علم فلسطين في القدس لأنه منهمك في رفع اعلام وشارات غيره وخوض معاركهم الجانبية!
مشهد رقم 6:
في الآونة الأخيرة شهدت المدن والمخيمات اشتباكات مسلحة بين العائلات نتج عن بعضها سقوط قتلى وجرحى، بعضهم من الأبرياء الذين لا ناقة لهم ولا جمل في العراك. وبينما يسجل المواطنون استياءهم الشديد من حالة الفلتان هذه، يتحدثون عن المتورطين في هذه الاشتباكات وكأنهم من كوكب آخر ويلومون الفساد والأمن وكل الدنيا على التقاعس والتقصير في تطبيق القانون... طبعا هذا إلى أن تقع حادثة قريبة من أحد المتذمرين فتراه يؤيد إغلاق الطرق وأخذ القانون باليد سبيلا للوصول إلى العدالة التي يرفض أن تأتي من خلال تطبيق القانون ومحاسبة الجناة في محكمة عادلة ويطالب بالقصاص والإعدام و"فرش عطوة" حسب الحكم العشائري!
بالرغم من هزلية مشهد الأشياء مقلوبة على رأسها، إلا أن القلق يجب أن ينتابنا جميعاً اذا ما سلمنا أننا نقبل الحديث عن المنطق والمحاسبة والشفافية والقانون بشكل نظري وعند التطبيق، نوجد الأعذار لأنفسنا ولغيرنا ويصبح كل شيء استثناء ونتمترس في "زمن شقاليبو" ونبكي على زمن الأخلاق الذي ضاع!