محمد الأمين سعيدي/شاعر وأكاديمي جزائريّ
لم يقف التصوُّفُ قديما عند المنجز الديني الضخم الذي وجده شبه مكتملٍ بسبب التراكم، بل اجترحَ لنفسه سبُلا أبعد ما تكونُ عن التسليم الأعمى وعن اليقينيات التي مثَّلتْ أساس الخطابِ السائد آنذاك في الشريعة وفي غيرها من الفنون والعلوم. ولهذا راح التصوُّف ينحت مفاهيمه جاعلا من الحقيقة غايته، مبتدِعًا تفكيرات جديدة تفسِّر الحياة، الإنسان، الله، الذات، الآخر؛ وهي على درجة من الاختلاف جعلتْ خطابه مرفوضا ومُتَّهمًا بالمروق عن الدين، وغالبًا بالكفر، مما أدَّى بكثيرٍ من أعلامه إلى نهاياتٍ مفجعة. ولعلَّ السبب في كل هذا أنَّ الصوفية لم يكتفوا في بناء رؤيتهم بالدائرة الإسلامية، بل كانوا يضعون الآخر دوما في حسابهم. فتكوّنتْ كثير من عقائدهم التي تجعل كل شيء موضوع محبة وسلام، ومن ذلك إيمانهم بوحدة الوجود التي تقضي بأنَّ الحق هو الخلق، وقد ترتَّب عن هذا عقيدة المحبة التي تقضي بأنه ما دام الله، بالنسبة إليهم، هو كلُّ شيء، فقد وجبتْ المحبة لكلِّ شيء لأنّه من الله. من هنا تُفهَم جليًّا أبيات ابن عربي الشهيرة:
"لقد كنت قبل اليوم أنكر صاحبي
إذا لم يكن ديني إلى دينه دانِ
لقد صارَ قلـبي قابلاً كلَ صُـورةٍ
فـمرعىً لغـــــزلانٍ ودَير لرُهبـَــــانِ
وبيت لأوثــانٍ وكعـــبة طـائـــفٍ
وألـواح تـوراةٍ ومصـحف قــــــرآن
أديـنُ بدينِ الحــــبِ أنّى توجّـهـتْ
ركـائـبهُ ، فالحبُّ ديـني وإيـمَاني
ومثلما لم يقف المتصوفة في الدين عند الحدود التي رسمها الفقهاء، لم يقفوا في الشِّعر عند الحدود التي رسمتْها المؤسسة النقدية آنذاك والممثّلة في أبواب عمود الشعر المعروفة التي اكتملتْ على يد المرزوقي في مقدمته على "ديوان الحماسة" لأبي تمام. وهي أبوابٌ تقضي بالتشابه والمباشرة والمنطقية بشكل حوّل القصيدة إلى مجرّد محاكاة بسيطة. ولئن بدأتْ علامات التمرّد على العمود تظهر بالتتابع عند بعض الشعراء القدماء من أمثال بشار بن برد وأبي نواس وأبي تمام وغيرهم...فإنَّ شعر الصوفية كسرها جميعا وفتح القصيدة مجددا على أفق تحلّق فيه الخيالات المبتكرة والصور الجديدة دون تقييد. والأهمُّ من هذا أنه فتحها على رؤى مختلفة لا عهد للشعر العربي بها، وقد ساهم في إنتاجها فكرهم المختلف وشجاعتهم الفريدة في ذلك الزمن.
من هنا يمكن الإقرار أنَّ اللغة الإبداعية قبل الصوفية كانتْ مجرّد وصفٍ للعالم يتسم بالمباشرة ويتكئ على المنطقية عند غالب الشعراء باستثناء قليلين، أمّا معهم فقد تحوَّلتْ إلى عالمٍ قائم بذاته. فلقد انتبهوا إلى أنَّ العالم ليس دائما ما نراه، بل هو في أحايين كثيرة ما نبتكره ونبنيه بأنفسنا، والأهمُّ أنه ما نعيشُه كما نريدُ. فالتجربة الفردية هي الطريق الأوحد لمعرفة الله، وكانتِ اللغة هي المرآة التي ارتسمتْ عليها شتى الاختلاجاتُ والهواجس والتجارب التي كان يعيشها الصوفيّ. وإذ تميّزتْ تلك اللغة باختلاف جملتها والرؤية التي تعبِّر عنها، اشتملتْ على خروجٍ رهيبٍ عن التواضع اللغويّ الذي اتفق عليها الناس في ذلك الوقت، لتصبح الخمر غير الخمر، والكأس غير الكأس. وإذ نشير، للتمثيل على كلامنا، في شعرهم إلى نماذج مهمّة كتائية ابن الفارض وأشعار ابن عربي والحلاج والسهروردي، نشير أيضا في نثرهم إلى شطحات أبي يزيد البسطامي وطواسين الحلاج ومواقف عبد الجبار النفري، ويكفي هذا الأخير في النثر لقياس مقدار الانزياح الذي أصاب اللغة على أيدي هؤلاء المبدعين.
لقد عدنا إلى الإضافات التي قدّمها الصوفية للغة والإبداع العربيين لأنَّ المشهد الأدبي العربيّ اليوم يكشف عن كتاباتٍ كثيرة غير واعية بالرهان الذي يخوضه أيُّ نصٍّ حقيقي، وهو أنْ ينتمي إلى التراكم الإبداعي الذي تحتفي به لغته، وأنْ ينقطع عنه في الآن ذاته عن طريق الإضافة والإبداع المختلف. هذا ما قام به الصوفية قديما، وقام ويقوم به أيُّ مبدعٍ حقيقي في أية لغة في العالم.