إبراهيم رحمة
سجل التاريخ القديم حضورا قويا للكائن العربي، سواء في فرديته أو في جمعيته، فهو أول من وضع القانون، وأول من زرع، وأول من سنّ للثقافة أسسا، وشيّد الـمباني ووضع قوانين العمارة، هو أول من وضع الأبجدية وبنى الجامعات والـمشافي، أول شكّل الحكومة..
تجد للعربي على الدوام البداية من كل شيء والتأسيس لكل أمر، ويمكننا القول أن الكائن العربي هو من أعطى للإنسان تعريفه الـمدني وتعريفه الحضاري، كما أنه هو من جعل للإنسانية معنى وشقّ لها طريقا فوق هذا الكوكب وخرج بها من ظلمات الجهل وأبعدها أكثر من مرة عن السقوط في البوهيمية..
البوهيمية التي عادة ما يسقط فيها غيره من العرقيات، والأمثلة كثيرة، سواء ضحايا الحربين العالـميّتين التي فاق عددها عشرات الـملايين في بضع سنين، أو التصفيات العرقية التي يقوم بها غير الكائن العربي من حين إلى آخر، تصفيات في الداخل الأوروبي (فترة التسعينيات مثلا)، أو تصفيات عبر القرون الأخيرة للسكان الأصليين في أكثر من بقعة من الكوكب (سكان الأمريكيتين الأصليين والولايات المتحدة تحديدا)، هذه التصفيات التي يرفع لها أصحابها عادة شعار المدنية والتمدين بل وباسم الدين أحيانا..
كلما رجع عموم الإنسان إلى الكتابات التأريخية البعيدة عن "الأنا" السياسية، يجد للكائن العربي فيها الصورة الواضحة والناصعة، لولا نصاعة تاريخ العربي ومجده ما كانت أرضه مسرح صراع دائم، ومدار تنافس من كل العرقيات الأخرى، لا ننسى أن الشجرة المثمرة هي التي يرميها الناس بالحجارة..
نسوق هذه المعلومات، ونفتح هذا الباب من الكلام، لسبب واحد هو ما أصبحنا نشعر به كعرب في الفترة الأخيرة من ضحالة بين الأمم تدفعنا إلى القناعة بأننا صفر على الشمال، وأنه بسبب ما نعايشه من صراع بينيٍّ وما نـمارسه من غباء أسطوري عند معالجة الحادثات، صرنا نشكّ في تاريخنا من القديم إلى الحديث، وصرنا نشكّ حتى في ذاتنا العربية، بل إنّ ما يتمّ تصويره لنا - بفعلِ أكثر مِن فاعلٍ - هو أننا سبب مشاكلِ، كلِّ مشاكلِ الكوكب، وأنه لو يتم محو الكائن العربي من الوجود، لكان لكوكب الأرض شأنٌ آخر، شأن آخر من الـمدنية والتقدم الزاهر والرفاهية الإنسانية.
من خلال ما يتمّ رصْفُه من الـمشاهد الإعلامية، ومن خلال ما يتم تصديره للمعمورة وللداخل العربي من القناعات، صار من السهولة التخيّلُ، حتى من العربي ذاته، أننا آفة.. وفي الـمُحَصِّلة، العربي كائن ضالّ..
لهذا وعِوَضَ أن نعيش قصة "عودة الابن الضال" علينا إعادة النّظر في الـمفاهيم، إعادة النّظر في ما يدور حولنا، إعادة النّظر في تَراتُبِيَّة الحادثات في منطقتنا للوصول إلى فهْمٍ عميق للمقصود من تَراتُبِيّة الحادثات هذه..
لذا وبكل بساطةِ البساطةِ، علينا العمل كأفراد وكجمعيات من أجل عودة العربي "الضال"، إلى ذاته، إلى عَرِينِه، على الكائن العربي أن يَعِــي أنه لو لا أنه قوةٌ وأنه مَناطُ كلِّ ما على الأرض، ما كان مَسْرَحًا لكلّ هذا الكمِّ الهائلِ من الصّراع، الصراع الذي تتمُّ رعايته في مشاتل الآخر، تلك الـمشاتل الخفية التي لا تعمل إلا في الظلام وتَتَّخِذ عناصر تبدو من المجموعة العربية دمًى، وظيفتُها تكثيفُ الصّراع البَيْنِـيِّ، والعمل على مزيد من الضّلال..
على الدوام أظلّ أعجب كيف للكائن العربي أنْ يضعَ ثِقتَه في الآخَر، هذه الثقة الـمُضلِّلة حتى في أتفهِ حالاتها، حتى ولو كانت ثِقةً في خبر، ويستبعد بِدَيْهِيّاتٍ ثابتةً في تاريخه..
نَتَقَبّلُ أنّنا في ضَلال بِناءً على النتائج الصارخة التي تجلدنا وتصلبنا صباح مساء، غير أنه ومن واجبنا الأكيد العمل على عودة "العربي" الضّالّ بكلّ ما يَتَوفّر لدينا من أدوات ومن غير تضْييعٍ للزّمن، الزّمن الذي سيَحْكُم علينا لا محالة، لحظتها سنكون حتما في خبر كان.