لفوا جسد الطفل المحروق علي دوابشة بالعلم الفلسطيني، ووضعوا الكوفية عند رأسه، وحمله المشيعون إلى القبر. حضر رئيس حكومة السلطة ومجموعة من رجال الأمن الفلسطينيين بكامل لباسهم العسكري وأسلحتهم! وبكى الناس وهتفوا. شُيّع علي الدوابشة في قرية دوما الفلسطينية بكل الرموز الوطنية، وقيل فيه كل الكلام.
لكن ما فات جوقة الندب والتهديد اللفظي والتلويح بمحكمة الجنايات الدولية، هو ان الحكي خلص، ولم يعد أحد يمتلك حق رثاء الضحية.
طعم الرماد في حلوقنا حوّل الكلام رمادا لا نار فيه ولا حياة.
خلص الحكي لأن كل ما يقال اليوم قيل آلاف المرات مجللا بفصاحة لغة الضاد.
لم يعد تكرار الكلام مجديا. خلص فلنخرس، لم تعد اللغة مجالا لتنفيس الغضب، لأنها صارت رمادا يمتزج برماد الأطفال.
أما الرثاء فلا يحق لأحد أن يرثي. من يرثي هو الذي يرث، هذه هي المعادلة التي اجترحتها لغة العرب عندما جعلت من كلمتي الرثاء والإرث متداخلتي الحروف بحيث لا تنهض كلمة منهما من دون الأخرى.
الرثاء هو إعلان حقنا في الإرث، من يجرؤ اليوم أو يريد أن يرث علي دوابشة، طفلنا القتيل محترقا بوحشية المستعمرين الصهاينة وعجزنا.
هل يستطيع من احترف الاستسلام أن يرث؟
هل يستطيع من ينسّق أمنيا مع المحتل أن يرث؟
هل يستطيع أبطال الانقسام الفلسطيني ان يرثوا؟
لا يحق لأحد أن يرثي علي، لأنني لا أرى في الأفق اليوم من هو مستعد أن يرث دمه.
إذاً، اخرسوا رجاء وتوقفوا عن إهانة عيوننا.
اخرسوا وحلوا عن الشهداء. اتركوا علي وحده في رحلته إلى رحم الأرض بعدما حرمه الوحوش من الحليب والماء والهواء.
علي يتنفس الآن، أزاح دخان الحريق وعاد جنينا في بطن هذه الأرض الفلسطينية التي لا ترتوي من دماء الضحايا.
خلص الحكي، رجاء لم يعد التفجع العاجز المنافق يثير فينا سوى القرف والغثيان، اخرسوا، ومن أراد أن يحكي فليجب على سؤال واحد، هو كيف نواجه قطعان المستوطنين – المستعمرين الفالتة من عقالها؟
السؤال الآن ليس المفاوضات ولا حق العودة ولا الدولة المستقلة… هذه أسئلة سوف يأتي وقتها بعد أن يجيب الفلسطينيون على سؤال البقاء والوجود.
لم يعد يكفي أن نقول اننا صامدون، نحن لسنا صامدين، فحين تمتلئ الضفة بالمستعمرات، وحين يبني المستوطنون – المستعمرون «دولتهم» في الضفة وتكون هي البديل الحقيقي لدولة «السلام الأوسلوي» الفلسطينية الوهمية، لا نكون صامدين.
انظروا أيها الناس إلى الواقع واتعظوا من تاريخكم.
إسرائيل دولة يحكمها المستوطنون بفكرهم الديني الأصولي وممارساتهم الفاشية. حكومة إسرائيل هي حكومة هؤلاء الأوغاد الذين يريدون الاستيلاء على أرضكم وطردكم منها. وكل شيء آخر من التسويات إلى المفاوضات إلى التصريحات هي إضاعة لوقتكم. لا شيء في الأفق سوى قطعان الفاشيين الذين يريدون قتلكم وطردكم.
هكذا نشأت إسرائيل الأولى عام 1948، وأمام اعيننا اليوم تتأسس إسرائيل الثانية.
هم في الهجوم الشامل، لا يلوون على شيء، قد يناورون ويفاوضون ويبيعونكم الكلام، لكنهم يريدون كل شيء. وحتى لو أراد بعضهم، وهذا مشكوك فيه، التسوية، فهم تورطوا إلى درجة لم يعد فيها التراجع ممكنا.
وماذا فعلتم انتم؟
ماذا فعلت السلطة؟
ماذا فعلت حركة فتح وجميع الفصائل؟
لا شيء سوى الكلام، والمفاوضات الأبدية، والنهب وبناء الفيلات والدعارة.
لماذا تم تجريد «كتائب شهداء الأقصى» من السلاح وبهدلة عناصرها؟
قالوا إنهم ضد فوضى السلاح، لكن ماذا يفعل الأمن الوطني بسلاحه، وماذا تفعل يا ماجد فرج؟
تنسقون مع المحتل، عفارم عليكم، ثم ماذا؟
من يدافع عن الناس في بيوتهم أمام هجمة وحوش «تدفيع الثمن»؟
تقع دوما في المنطقة ب، حيث الأمن بيد الإسرائيليين بحسب اتفاق أوسلو، خلال الانتفاضة الأولى لم يكن يجروء أي مستوطن على دخول القرية، لأن شعبها كان يحميها، أما اليوم فإن الأمن الفلسطيني لا يدخل إلا احتفاليا ومن أجل حماية رئيس الوزراء!
لماذا لم يكن هناك في دوما من تصدى للسفاحين الذين أحرقوا عائلة الدوابشة؟ ما هي مهمة قوات الأمن الوطني؟ ولماذا لا تجرؤ على حماية الشعب؟ ومن وظفها شرطة لحماية أمن المحتل فقط؟
الكلام انتهى لأن الطلب من السلطة أو من أجهزتها أو من السلطة الأخرى التي تقودها «حماس» أي شيء صار مزحة سمجة.
لا نريد منهم شيئا، حتى اننا لم نعد نريد رحيلهم. بقاؤهم ورحيلهم سيّان.
السؤال موجّه إلى الناس لا إلى السلطة أو الفصائل مجتمعة أو متفرقة، وهو سؤال فلسطين الوجودي اليوم.
لا يمكن ولا يعقل ان لا يمتلك الفلسطينيون وسيلة للدفاع عن أنفسهم.
وهذه ليست دعوة إلى الكفاح المسلح الذي سيأتي وقته حين يأتي.
إنها دعوة للدفاع الذاتي والاستعداد لمعركة شاملة يعد لها المستوطنون وحلفاؤهم/ أذيالهم في المؤسسة الأمنية الإسرائيلية.
إنها معركة دفاعية في الأساس، هدفها منع تكرار فصول التهجير التي عاشتها الفلسطينيات والفلسطينيون في حرب نكبة 1948.
ومن لا يرى ضرورة اليقظة والتنبه وخوض هذه المعركة فهو إما احمق أو جبان أو خائن.
حين يبدأ الدفاع الوطني في القرى والمخيمات وأحياء المدن، على شكل لجان شعبية منظمة تقود عملية الدفاع الذاتي، يبدأ الكلام، ونستعيد حقنا في أن نبكي علي ونرثيه.