الحدث - جوليانا زنايد
في الوقت الذي جرى الناس فيه إلى المنفى سار هو إلى الوطن، وأوقد شعلة العودة قبل الرحيل.. فما أن أطبق الظلام ظلاله على بتير الفارغة من أهلها حتى أشعل وآخرون ممن كانوا معه فوانيس منازل القرية المهجرة، واهما عصابات "الهاغانا" الصهيونية بأن القرية مأهولة بأصحابها.. كان حسن مصطفى.
مدركا تماما أن العصابات الصهيونية على غرار عصابات "الهاغانا" لن تستطيع هزم شعبا بأكمله مهما كانت مدججة بالسلاح، إلا إذا أراد لنفسه الهزيمة.
ما قام به مصطفى في ذلك الوقت، كان حيلة بسيطة أبقت قرية بتير حتى اليوم، مقدما درسا أخلاقيا ووطنياً لمن عاصروه، على غرار ما يحدث هذه الأيام.
"الحدث" التقت كريمة مصطفى، نادية بطمة المقبلة على الستينات من عمرها التي ما تزال تحمل حكاية مشرفة و كثيرا من الأسى على ما حل بكل ما أنجزه والدها.
حياة حسن مصطفى
حسن مصطفى المولود في قرية بتير عام 1914، تفوق بدراسته في كلية الروضة بالقدس وتخرج من الجامعة الأمريكية بالقاهرة ثم عاد لفلسطين ليبدأ عمله في دائرة التعاونيات الحكومية لمدة عام، ويصبح معلما في كلية الروضة في العام التالي، وجه كل خطوة من حياته لتحرير فلسطين من الانتداب البريطاني آنذاك.
فصدر أمر باعتقاله عام 1939 لكنه غادر البلاد إلى الأردن ثم إلى العراق قبل أن يتم اعتقاله، وعمل هناك معلما في دار المعلمين العليا في بغداد، وعاد بعد أربعة أعوام لينشأ هو والأستاذ خليل السكاكيني كلية النهضة، ويعمل فيما بعد في إذاعة الشرق الأدنى في يافا.
تقول بطمة، "شغل والدي عددا من المناصب فكان رئيسا للجنة الثقافية والأدبية لنادي الإتحاد القروي عبر الانتخابات، وعضوا في المؤتمر الدائم لقضايا الوطن العربي، وجذب انتباه العالم لعمله وفكره حتى أن منظمة اليونسكو اهتمت به، وعمل بعد النكبة كضابط ارتباط بين وكالة الغوث والحكومة الأردنية".
العونة
وتتابع بطمة "كان والدي مهتما جدا بدراسة المرأة وعملها وتعزيز دورها بالمجتمع، فدعمني لالتحق بدار المعلمات وأصبح معلمة، وكان رفيقي حين قررت أن أدرس اللغة الانجليزية عام 1975".
وتضيف أن والدها عزز مفهوم العونة في قرية بتير بطريقة نموذجية وعمرها وأهلها، فتم ترميم عيون الماء والبناء حولها وتدشين الشوارع في القرية ذات البيئة الوعرة، إضافة للمدرجات ومراكز الخياطة والمدارس والحديقة العامة، إلى جانب كل من الوحدة الصحية ومركز البريد والملعب العام.
وأوضحت بطمة في لقائها مع "الحدث" أن والدها كان مؤمناً بقدرات ودور الأفراد والجماعات، ومخلصاً لأهمية توظيف هذه القدرات في التنمية المجتمعية، كما آمن بضرورة تعزيز العلاقات، فعمل على إعادة تشكيل قيم ومبادئ أهل القرية، ليصبح الجميع متطوعين في أي فكرة تخدم قريتهم أو أحد أبنائها، حتى غدا مفهوم العونة قانوناً ومن يخالفه منبوذ اجتماعيا.
ظل مصطفى يسير على هذا النهج حتى النكبة، التي حافظ خلالها على بتير من هجوم العصابات الصهيونية وحافظ عليها أيضأ بعد توقيع اتفاقية "رودوس" للهدنة بين العرب والإسرائيليين، التي ضُم فيها جزءا كبيرا من قرية بتير للاحتلال.
فاوض مصطفى موشي ديان قائد جيش الاحتلال آنذاك بحضور قائد الجيش الأردني عبد الله التل، وأجبر قوات الاحتلال على التراجع إلى خط الهدنة السابق، مدعياً أن أهل بتير ما زالوا فيها، ثم عمل على إعادتهم تدريجيا، بعد أن خدع الإسرائيليين وأجبرهم على عدم التوسع فيها.
وتشير إلى أنها تعمل على تجميع وتوثيق جميع أعمال والدها من كتب ومنشورات ومحاضرات، كي تتركها درساً للمستقبل وعبرة من التاريخ، فتعتبر بطمة أن مصير بتير كان يمكن أن يكون مختلفاً تماماً لو لم يكن والدها.
وعبرت بطمة عن مدى استياءها من الطريقة التي يتم التعامل فيها مع قضية والدها، ومع انجازاته في بتير فيتم استخدامها بهدف التسويق للبلدة على أنها بلد سياحي، ويقوم الشبان بالترويج لأحداث غير حقيقية بهدف استقطاب السياح وجمع الأموال.
فينظم بعض المرشدين رحلات للسياح ويقدمون لهم معلومات غير دقيقة عن بتير، فقام أحدهم برسم حدود صحيحة لبتير وتصورها على أنها أصغر مما هي عليه، وفي هذا الشأن تقول بطمة إن هذا يهدد بهدم كل ما عاش أبي ومات من أجله فإنهم يسيئون تمثيل بتير ولا يجيدون التوثيق أو نقل التاريخ وكل ما يهمهم هو جمع المال.
وتضيف: أن شباب بتير يحاولون تحويل بتير إلى موقع أثري ويروجون لبعض المعالم التي تعود للستين عام الأخير على أنها تعود لعصور الرومان، وتتسأل بطمة هل هذا حقيقي أولا؟ ثانيا هل ينقص فلسطين مواقع أثرية حتى نقوم بضم ما هو غير أثري لها؟"
وتستطرد بطمة إن المشكلة ليست فيما يحاول الشباب القيام به، بل بالطريقة التي ينفذونه بها، فهي تسيء إلى والدي وكل جيله الذين عملوا طيلة السنوات السابقة على تعمير بتير، ثم إنها تفقد العالم ثقته بنا حين تتضارب روايتنا، وتضفي على رواية الاحتلال ثقة أكبر فهي ثابتة منذ نشأته حسب قولها.
وعن العونة تقول بطمة: "لقد فسدت التجربة وساء استخدامها، وانحسر الإنجاز، فبات مفهوم العونة يسمى بالعمل التعاوني أو التطوع، الذي تنفذه مؤسسات دخيلة على المجتمع وبالتالي اختلفت نوعية المشاريع التي يتم تطبيقها".
وترى بطمة أن المشاريع التي يمكن أن يطبقها ابن القرية ستكون أقرب إلى حاجات مجتمعة مما لو كان من يقوم بها بعيداً عن هذا المجتمع، وغير منسجم فيه، وكل ما يقوم به الشباب البتيري اليوم هو نقض واضح وصريح لكل ما عمل من أجله حسن مصطفى حتى وفاته عام 1961.