الإثنين  25 تشرين الثاني 2024
LOGO
اشترك في خدمة الواتساب

لحظة ضعف قاتلة / بقلم: عبد الغني سلامة

2015-08-11 10:07:34 PM
 لحظة ضعف قاتلة / بقلم: عبد الغني سلامة
صورة ارشيفية
 
أدمى قلوبنا جميعاً شهيدنا الرضيع "علي دوابشة" برحيله الحزين متفحماً في أتون أضرمه قتلة مجرمون، تجرؤوا على دم طفل لم يرَ من دنياه سوى أيام معدودات، بل وأوجع موته ضمير البشرية جمعاء.. لكننا استبدلنا حزننا النبيل وغضبنا المشروع على تلك الفجيعة بردات فعل غريبة، اتسم أكثرها بالسطحية، وبالعويل، والطخطخة في الهواء، وجلد الذات، وحملات التخوين.. وبدلاً من أن توحدنا دماء الشهيد، جعلنا منها مادة للمزاودات الرخيصة، وسبباً إضافياً لتعميق الانقسام!!
ربما في أعماق كل واحد منا رغبة جامحة لأن يرى ردود أفعال ترتقي إلى مستوى الحدث: عمليات عسكرية ضد قطعان المستوطنين، مظاهرات شعبية حاشدة تجتاح المدن، هجوماً سياسياً دبلوماسياً قوياً يؤدي إلى حملات إدانة عالمية، وتقديم المجرمين لمحكمة الجنايات الدولية.. لكن هذا لم يحدث تماماً.. وللتورية على ضعفنا افتعلنا معارك جانبية طاحنة ضد رسوم الكاريكاتير المسيئة تارة، فتحولت الأنظار إليها، وصارت هي لب المسألة!! وتارة تحولت السهام إلى "محمود عباس"، وهي عادة دارجة مع كل جريمة يقترفها الاحتلال؛ حيث تنصبُّ الشتائم واللعنات عليه. ولست هنا بموضع الدفاع عن الرجل، ولكن الموضوع هو استهجان ذلك النهج التطهري في تبرئة الذات وتحميل المسؤولية لشخص ما، واختزال الموضوع بأكمله فيه، كما يفعل الحاج الذي يرمي إبليس ببضع جمرات في يوم واحد ليطهر ذاته ثم يمضي بقية السنة في الخطايا والآثام. "محمود عباس" اختار لنفسه أن يكون رئيساً على الفلسطينيين، وبالتالي عليه أن يتحمل تبعات ذلك، وأن يتحمل مسؤولياته كاملة.. ولكن ما نفعله نحن، هو شتمه وتحميله كامل المسؤولية، وكفى الله المؤمنين شر القتال..
ولو تأملنا ردود الأفعال على جرائم الاحتلال في كل مرة، سواء في صراخ الناقمين، أم في تصريحات الناطقين الإعلاميين، أم في منشورات الفيسبوك، وموجات الإعلام المختلفة، وحتى في المقالات والقصائد سنجد أن القاسم المشترك بينها هو الضعف وانعدام الحيلة، وغياب أي تصور حقيقي للخروج من المأزق.
ويبدو أن البعض اكتشف حديثا أن إسرائيل "دولة" مارقة، وأن مستوطنيها عبارة عن حفنة من الإرهابيين. أو أنها لم تكن موجودة قبل هذه الجريمة، ولم تكن تستحق المقاومة قبل ذلك. أو أن هذا هو دأبنا: نثور على شكل هبات موسمية مندفعة بعاطفتها للحد الأقصى، ولكن بلا عقل.. ودون تخطيط.. عاطفية؛ لأنها لا تتأثر إلا بما تراه رأي العين، وبجرعات متزايدة مرة بعد مرة، إذْ لم تعد تكفي أخبار القتل العادية لتثوير تلك العاطفة، فلا بد أن تكون الضحية طفلاً، أو عريساً على وشك الزواج، وقد نحتاج إلى صور دامية لأشلاء ممزقة، أو طريقة موت خارجة عن المألوف.. ودون عقل؛ لأنها ردات فعل مؤقتة، لا تبني على سابقاتها، ولا تراكم إنجازاتها، ولا تجري وفق نسق مخطط له..
وكالعادة، مع كل جريمة يقترفها الاحتلال يخرج علينا الناطقون باسم الفصائل (المدججون بالميكروفونات) بالتصريحات النارية: "سنحرق الأرض تحت أقدامهم"، وفي حقيقة الأمر أطفالنا هم من يحترقون.. يتناسى هؤلاء أن الكفاح المسلح بالطريقة المعهودة لم يعد ممكناً، وأن شروط نجاحه وديمومته (لوجستياً وسياسياً) غير متوفرة، وأن المحيط العربي والدولي لا يسمح بأي حال لأي عمل مسلح ضد إسرائيل، وإذا أقدم فصيل ما على عمل مسلح، غالباً ما يكون غير مدروس (من حيث التوقيت والمكان وتأثير ذلك على المدنيين)، فإنه في واقع الأمر يستدرج عملاً إسرائيلياً مدمراً يذهب ضحيته المئات. لذلك، فإن الذين دمرت بيوتهم في حروب غزة الثلاث ما زالوا في العراء، وقد تبخرت تهديدات الناطقين الإعلاميين قبل وأثناء تلك الحروب وذهبت مع الريح، بل أن الواقع ازداد سوءاً.
ما تغريدات التويتر ومنشورات الفيسبوك فهي لا تقل بؤساً؛ فما هي إلا "فشة خلق"، وتوزيع اتهامات، وحرب كلامية دون صلة بالواقع، تعفي أصحابها من مسؤولياتهم الحقيقية، أي أنها للاستهلاك، وشحن العواطف وإثبات الحضور. وبمراقبة بسيطة من السهل تصنيفها إلى ثورية وصادقة، أو بروبوغندا حزبية ومزاودات وكليشهات زائفة.
حالياً، أجازف بالقول بأننا نمر في لحظة ضعف قاتلة، لا أحد يمتلك الإجابة الوحيدة الصحيحة، لا أحد بيده الحل السحري.. ومع ذلك؛ هنالك إجابات متعددة، ومتنوعة، وهذا ليس بخطأ؛ الخطأ هو الإدعاء باحتكار الصواب، واختزاله بمنهج وحيد، ومصادرة حق الآخرين بالبحث عن حلول. فبسبب هذا الأسلوب العقيم ساد نهج التخوين والتكفير والإقصاء، وانقسم الشعب إلى مجموعات متحاربة تزعم كل واحدة منها أنها صاحبة القضية، وصار الهم الحزبي والأيديولوجي فوق وقبل الهمّ الوطني والإنساني... وتحوّلت الاختلافات في الرؤى والاجتهادات إلى جدران صماء تعزلنا عن بعضنا بدلاً من كونها فعلاً جماعياً متسقاً، ثرياً بتنوع خياراته، وتعدد أساليبه وأدواته...
بدلاً من هذه الموجة المفتوحة من الصراخ والهراء، التي لا ينجم عنها إلا التيئيس والإحباط، لنطرح الأسئلة بموضوعية وجرأة. وبدلا من الهروب الساذج إلى الشعارات والعواطف، لنبدأ فوراً بتقديم الإجابات بشكل واقعي وعقلاني، يسمح بتقليل الخسائر، وإعادة الوحدة الوطنية، واستنهاض عوامل قوتنا الذاتية (وهي كثيرة ومؤثرة)، وممارسة المقاومة وفق إستراتيجية مدروسة ومتفق عليها.
وعلى كل فلسطيني أن يسأل نفسه بصدق وشجاعة: ماذا قدّم؟ وأين قصّر؟ وإذا تجاوزنا هذا الامتحان البسيط بأمانة سنكون قد وضعنا أقدامنا كأفراد ومجموعات وفصائل ومؤسسات على سكة الحل الصحيح.. ودون ذلك، سنظل عبارة عن ظاهرة صوتية، تكرر نفسها بطريقة مملة وممجوجة.