الأحد  24 تشرين الثاني 2024
LOGO
اشترك في خدمة الواتساب

الوجه الواحد/النسق الوحيد

ضوء في الدَّغْل

2015-08-11 10:23:39 PM
الوجه الواحد/النسق الوحيد
صورة ارشيفية
محمد الأمين سعيدي/شاعر وأكاديمي جزائريّ
 
فلنفترضْ يا صديقي القارئ أنَّ الوصف المبالغَ فيه الذي سأقدِّمه متعلِّق بمكانٍ موجود في العالم:الشوارعُ أشبه ببيْتٍ عموديٍّ يساوي فيه الصدرُ العجزَ، والبيوتُ على تطابقٍ رهيبٍ، المارةُ جميعًا يجملونَ وجها واحدا مع فارقٍ بسيطٍ تحدثه الذكورة أو الأنوثة. وحين تسيرُ قد تلتقي بعمرَ ثم تخاطبُ بعده أحمد دون أنْ تشعر بفرقٍ كبير، بل قد تلتقي بسعادَ فلا تشعر بالفرق إلا من حيثُ مظهرها الأنثوي وشعرها إنْ كانتْ سافرة أو حجابُها إن كانتْ متحجِّبة. ولا يتوقّف أمرُ التشابه في هذا العالم عند هذا الحدّ، بل يطالُ الكبار والصغار، فالوجه الوحيدُ السائد يواجهكَ به طفلٌ في العاشرة فلا تشعر بفرق كبير بينه وبينَ شيخٍ في السبعين. وإذ لا يسمح الوقتُ للتفصيل نجملُ أنَّ كل شيء فيه يتشابه:العمران واللباس وطرق المأكل والمشرب، المشية وتسريحة الشعر، الابتسامات، البكاء، النوم، الأحلام، الهواجس، الاضطرابات، الأصواتُ، كيفية الجلوس...إلخ
 
يبدو من الوهْلة الأولى أنَّ هذا الوصف خياليٌّ لا يمكن أنْ ينطبق على أيِّ مكانٍ في العالم، بل من المستحيل منطقيا أنْ يحمل كل الناس وجها واحدا وأنْ يعيشوا بكيفيات متطابقة في كلِّ شيء. لكنَّ هذا الوصف متعلِّقٌ بالعالم العربي، وإذْ نحذف المبالغة الطريفة، يصبح أكثر واقعيةً إذْ إنَّ التشابه هو سيد المرحلة العربية الراهنة؛ التشابه في التفكير وتلقي الأشياء، والتشابه في القهر والعيش خارجَ اللحظة الراهنة التي يعيشها أغلب سكّان العالم. ولا يخفى على أحدٍ أنَّ الاختلاف بين البشر لا يخيف لأنه ثروة تؤدي إلى كثيرٍ من النتائج الإيجابية، لكن التشابه يربك لأنه يؤدي عادة إلى الإقصاء ورفض الآخر، وربّما أدَّى إلى العنف.
 
لهذا الواقع العربي كثير من الأسبابِ، وإذ لا يسمح الوقت لذكرِها جميعا سنكتفي بأهمِّها فيما يلي:
 
لقدْ تناوبَ على العربي حذاء العسكريّ ولحية المتطرف، وذلك منذ قيامِ الدولة الوطنية. ويشتركُ الاثنان في الأحادية والشعبوية. وإذْ تعْمدُ الأولى-الأحادية-إلى ترسيخ التشابه في كل تمظهرات الحياة لدرجة تجعل المختلف شذوذا، تذهبُ الثانية، وهي تغازل الشعوب المقهورة والمنوَّمة، إلى امتداح التشابه تحت أسماءٍ زائفة كالمساواة واللاطبقية. بعد هذا سنجد أنفسنا أمام نتائج وخيمة جدا؛ فلقد قضى حذاء العسكري على أيِّة إمكانية لقيام حياة ديمقراطية عربية تقوم على الحرية وتقدِّس خيارات الأفراد، وقضتْ لحية المتشدد على روح التسامح وتقبّل الآخر المختلف دينا وإديولوجيةً وأفكارا باسم وصاية مقيتة تتكلّم باسم الله، لتتفرّد بإحكام سلطتها على الناس. هذه الديكتاتورية المتغذية من الأحادي العسكري والأحادي الديني تقف منذ عقود أمام انتصار دولة المواطنة، وتؤدي مع الوقت إلى تعثُّر كثير من مشاريع الحداثة التي تنشد حياةً مدنية تقوم على سلطة القانون والدستور التي تخدم حرية الإنسان.
 
بعد هذا هل من المعقول أنْ نتساءلَ من أين جاءتْ داعش؟ من أين خرج علينا التطرّف ومزّق أوطاننا وحوّل بعضنا إلى مشاريع إرهاب أو قنابل بشرية موقوتة؟؟ لقد كانَ الجو السياسي والاجتماعي والثقافي دوما في البلدان العربية محرّكًا لكلّ أنواع الإقصاءات الممارسة ضدَّ الرأي، والتي تبدأ سياسيا بالتخوين ودينيا بالتكفير وتنتهي بالسجن أو إهدار الدم والقتل. من أجل هذا يمكن الجزمُ أنَّ كل تطرّف يحدث في العالم العربي هو إنتاج داخلي بالضرورة، وأنَّ كل محاولة لإلصاقه بالتآمر الخارجي هي نوع من التهرُّب المقصود أو من الجهل في التعامل مع مشاكلنا وتناقضات بلداننا التي تعيش نوعا حادا من الانفصام يجعلها تتمسّك بالماضي بشكل مرضي؛ الماضي السياسي من خلال تمجيد الانتصارات وإخفاء الانكسارات وتقديس الحكّام، والدينيّ من خلال سلفية متجذرة في الناس، حتى في أولئك الذي يزعمون أنهم ضدّ السلفية، لأنّ الجميع يرى أنّ السابقين أفضل من اللاحقين.
 
صديقي القارئ، فلتقرأ معي هذا الدعاء القرآني الجميل:السلام علينا يوم ولدْنا ويومَ نموتُ.