إبراهيم رحمة
مرة أخرى أجدني كعربي على الأقل، مدعاة للسخرية من نفسي قبل غيري، وأجد في الوقت الذي لم يبق فيه وقت للبرهنة على أنني إنسان بعد كل هذا التأخر، أنني كائن منتهي الصلاحية وفاقد لأي مبرر وجود.
قد يتبادر لذهن القارئ الكريم أنني أبالغ وأن ما هذا إلا طرطقة كلام، غير أنه لو تمعن هذا القارئ الكريم في ما يحدث له منذ عقود من تسلسل للهزائم ومن تسارع لحدث هذه الهزائم التي باتت تترى، جديدها ينسي قديمها، بل وصارت تتنوع كتنوع الحشرات في أعماق أدغال غابة إستوائية، قلت لو تمعن بالبصيرة وإمعان الفكر لا إمعان العاطفة، لوجد أننا جميعا ولست وحدي منتهو الصلاحية وفاقدون لأي مبرر وجود، لوجد أننا عالة على هذا الكوكب.
قبل سلسلة انتصار مجموعاتنا العربية على المستعمر القديم وتحرير مساحات شاسعة وتكوين دويلات (ننعتها بالعربية)، كان لنا عدو واضح الـمعالم لا يمكنه بأي حال من الأحوال الاندساس بيننا كمجموعة عرقية لها مواصفاتها، حتى أنه بكل بساطة يمكننا تحديد الخونة من بني جلدتنا، كما يمكننا تحييدهم أو القضاء عليهم أو الصفح عنهم، يمكن القول أنه كان لنا بعض سلطة القرار في فترة ما، أو لنكن عادلين في رؤيتنا نقول أنه يمكن القول أنه تخيلنا أن لنا بعض سلطة قرار.
وامتد الزمن بنا، ومرت فترة تحرير الأرض (لم يبق غير فلسطين وبعض الجيوب هنا وهناك)، فترة كانت تزخر بنظرية القومية، هذه النظرية التي كانت سُمّا في العسل، لم ننتبه لها جميعا، لم ننتبه لـمفعولها البطيء طويل الأمد، كنا نعتقد أننا بهذه النظرية نؤسس لحالة جديدة تكون لنا فيها الدولة.
سقطت النظرية والتي لم تكن غير مِعْوَل، جاءت بعدها نظريات، هي معاول أخرى، وكالعادة لا ننتبه، إلى أن اعتمدنا منذ خمس سنوات النظرية الأم دون مساحيق ولا مواراة، ودون أدنى حياء حتى من بعضنا، لم نعد نستحي من بعضنا كمجموعة عرقية واحدة، ولم نعد نستحي من ماضينا، ولم نعد نستحي من أطفالنا الصغار الذي لا يعلمون من شنآننا كأفراد وكمجموعات شيئا، لم نعد نستحي من جيراننا الذين يحبوننا، نعم لم نعد نستحي حتى من الله، واعتمدنا النظرية الأم، التي هي نظرية "يخربون بيوتهم بأيديهم".
قد نرمي بالـمنشفة على الآخر، ذاك العدو التقليدي، ونجعل منه الشماعة أو الـمشجب الذي نعلق عليه إخفاقاتنا الـمُهينة الـمُذِلة، لكن كل هذا وذاك لا يُعفي مسؤوليتنا كأفراد وكمجموعات تنتمي لنفس الإتنية، فلولا قابليتنا للاستغباء، ما كان كل هذا الكم الهائل من التشرذم والتقاتل البَيْني.
النظرية الأخيرة التي وصلنا إليها في السنوات القليلة الـماضية هي نَتاجٌ طبيعيٌّ لتطبيقات سابقة فاشلة، وصلت بنا إلى إغفال العدو الحقيقي، الذي هو الجهل قبل العدو التقليدي، ودفعت بنا إلى التوجه إلى تصنيع أعداء غالبا ما يكونون وهميين، هذه الصناعة كان يجتهد عدُوُّنا التقليدي فيها كي لا تقوم لنا قائمة، أما اليوم فقد طلبنا من هذا العدو بطريقة أو بأخرى ألا يتعب نفسه فنحن نقوم مقامه في تدمير كينونتنا.
حيث صرنا تماما مثل "دونكيشوت دي لا مانشا"، نتفنن في صناعة الأعداء الوهميين، ولا يستلزم الأمر حلبات مصارعة، ولا آداب مصارعة أيضا، حيث يكفي أي شيء لتدمير كل شيء.
أعتقد جازما وهذا ما أخشاه، أنه ولكي نخرج من بوتقة هذه النظرية، يلزمنا إفناء نصف شعبنا العربي، وبعض شعوبٍ أخرى تحبنا وتحترمنا وتُـجَاوِرنا، عندها نكون وبجدارة نستحق الانفراد بحقوق تأليف كتاب "كيف تصنع عدوا يقضي عليك".
بسكرة في 10 أغسطس 2015.