غزة- محاسن أصرف
ما إن يُعلن الفجر انبلاجه من رحم عتمة الليل حتى يستل أحمد المُغربي (11 عامًا) بضعة أكياسٍ فارغة ويلفحها على ظهره متجهًا لمكب نفايات اليرموك شرق مدينة غزة ليبدأ يوماً شاقاً في السعي وراء الرزق وقوت العيش.
هناك ينتظر الطفل المُغربي بلهفة مركبات البلدية المُحملة بالنفايات ليبحث فيها عمَّا يُمكن أن ينفعه، علبٌ فارغة من البلاستيك، قضبان حديدية، زجاجات مياهٍ مستهلكة، أو حتى أجهزة كهربائية بالية وقطع أخشاب مهترئة، فيُعبئها في الأكياس وينقلها بعد ذلك بعربته التي يجرها حمار متهالك القوى إلى حيثُ يمكنُ أن تُباع، يقول الفتى بسخط: «فرز النفايات أصبح مهنتي اليومية بعد أن أُجبرت اضطرارياً للخروج من المدرسة لأساعد أبي، فلم أجد عملًا آخر أقل خطورة وقساوة».
ويعيش أحمد مع أشقائه الأربعة ووالديه في بيت يفتقر لأدنى مقومات الحياة داخل مقبرة الشيخ محمد وسط مدينة غزة، بعد أن ضاقت بهم السبل في توفير مسكن بين الأحياء، حياتهم لا تتوفر فيها ظروف العيش الإنساني، فالوالد هشام بات غير قادر على العمل بسبب تهتك أعصاب يديه إثر وقوع خرسانة عليها أثناء عمله في الباطون، وأشقاؤه الآخرون لا يملكون سبيلًا للعمل لصغر سنهم وحاجتهم للرعاية، بالكاد يوفر أحمد من عمله في جمع النفايات الصالحة للبيع الخبز ليسد جوعهم. سألته “الحدث” إن كانت أسرته تتلقى أية مساعدات من جهات رسمية أو أهلية؟ يقول: «منذ أشهر قليلة فقط شملتنا وزارة الشئون الاجتماعية بغزة ضمن المستفيدين من مساعداتها المالية للأسر الفقيرة، نحصل على 750 شيكل كل ثلاثة أشهر»، وتساءل هل من الممكن أن تحيا أسرة من 7 أفراد على هذا المبلغ لأشهر ثلاثة؟ ويُتابع إن ما يحصل عليه من نبش النفايات وبيعها يُساعده قليلًا حيث يحصل يوميًا على 10 - 20 شيكلاً.
ويُمثل الطفل «المُغربي» نموذجًا لعشرات الأطفال الذين ساقهم الفقر والحرمان من أدنى مقومات الحياة الإنسانية إلى احتراف مهنة «نبش النفايات»، ففي وسط وشمال وجنوب قطاع غزة أينما وجدت المكبات يخرج الأطفال متجاوزين بيوتهم الفقيرة وعائلاتهم المكلومة لبدء رحلة بحث عن رزقٍ من العدم، «الحدث» في هذا العدد تقترب من النباشين الصغار تكشف عن معاناتهم، وحدود أثر مهنتهم على نفسياتهم، وتقرأ من خلالهم حالة اقتصاد القطاع.
نبشٌ بين البيوت
بين أزقة الحارات يجوب رجل خمسيني بعربة كارو يُنادي ألمنيوم نحاس للبيع، أجهزة خربانة ثلاجات غسالات أبواب اللي عنده للبيع، اقتربت منه «الحدث» فأدار ظهره موليًا خوفًا من عدسة كاميرا تصوره لكنه ما لبث أن عاد بعد أنا قطعنا وعدًا بعدم تصويره أو ذكر اسمه، يقول لنا: أعتمد على ما يأتي به الأطفال بعد نبش النفايات لأبيعها لتُجار أكبر مني يوردونها لمعامل تدوير النفايات سواء الورق والكرتون أو البلاستيك والمعدن «ويُتابع أحيانًا عندما يعجز الأطفال عن جمعها أبحث عنها كما ترين في الأحياء السكنية». وعن الأسعار التي يشتري بها من السكان يؤكد أنها مناسبة لكنهم أحيانًا يطلبون أسعاراً مرتفعة لأنهم أيضًا بحاجة إلى المال، غير أنه لا يشتري إلا ما يُحقق له ربحًا أكبر من التاجر، وبينما نحن على حديثنا معه جاءته امرأة تُدعى أم مصطفى أرادت أن تبيع له ماكينة خياطة قديمة عله يدفع فيها مبلغًا يُعينها على توفير احتياجاتها لكنه ما دفع إلا 10 شواكل فقط فصكت وجهها ولم تبعها له أملًا بآخر يدفع أكثر.
حياةٌ من بقايا الموت
وغير بعيدٍ يتجمع فتيةٌ آخرون عند أكوام الركام والهدم الذي أحدثته صواريخ الاحتلال خلال هجماتها على مساكن ومنشآت القطاع في حرب 2008 - 2009 وحرب 2012، يقول محمد دادر 14 عامًا من حي الزيتون بغزة،: «حالة الفقر التي نعيشها ومرض والدي وعجز والدتي دفعني وأخي لجمع الحصى والبلاستيك والحديد من أجل توفير لقمة العيش لإخوتي الأحد عشر».
واضطر محمد وشقيقه إلى ترك مقاعد الدراسة واللجوء إلى مهنة نبش النفايات وجمع الحصى بعد أن أنهك مرض التهاب الكبد الوبائي جسد والده، بينما عجزت والدته عن إكمال مسيرة عملها في حياكة الألحفة وأغطية الأسرة بعد إصابتها في حرب الرصاص المصبوب 2008 - 2009 وقطعت يدها وتشوهت ملامح وجهها وتهتك فكها، تقول الأم وتُدعى أم كمال: «لم يكن من سبيل إلا العمل خاصة وأن الجمعيات الخيرية تُساعد مرة أو أكثر لكنها لا تستمر لتجدد العائلات المحتاجة والفقيرة تبعًا لحالة الحصار وانعدام فرص العمل وارتفاع معدلات البطالة».
وبدأ محمد وشقيقه العمل في جمع الحصى وكل ما يُمكن بيعه من مكبات النفايات منذ منتصف 2009، يقول: «كان لدي أمل كبير ألا تطول مأساتنا ولكن الأعوام تجر بعضها»، وعلى الرغم من خشية محمد من الإصابة بمرض جلدي أو إصابته بكسر أو موت إلا أنه لا يملك أن يعفي نفسه من المسؤولية تجاه أسرته، يؤكد أنه يتوقع كل شيء في ظل الظروف الخطرة التي يعمل بها، لكنه يرجو من الله السلامة.
انعكاس لاقتصاد واهن
ويُفسر الخبير الاقتصادي ماهر الطبّاع انتشار ظاهرة «النبّاشون الصغار» في السنوات الأخيرة نتيجة لما وصل إليه القطاع من حالة اقتصادية متردية خاصة بعد سنوات عجاف من الحصار ازدادت إلى سبع سنوات أسدلت انعكاساتها على ارتفاع معدلات البطالة والفقر بين شريحة عريضة من المواطنين، وقال الطبّاع في تصريح خاص بـ «الحدث»: «انتشرت ظاهرة نبش النفايات مع بداية الحصار وعُدت المواد المستخلصة منها كالبلاستيك والحديد والحصى بمثابة تعويض عن المواد الخام اللازمة لعمليات الإنتاج المتعددة والتي حُرم القطاع من دخولها بسبب الحصار الإسرائيلي وإغلاق المعابر الرسمية»، وأضاف إن القائمين على الصناعات البسيطة والخفيفة في القطاع أعادوا تدوير النفايات الآتية إليهم عبر التُجار من خلال النباشين الصغار بما يُحقق توفير السلع التي يحتاجها السكان ومنعها عنهم الاحتلال.
ويُعود لجوء النباشون الصغار إلى العمل في فرز وجمع النفايات الصالح للبيع والتدوير إلى ارتفاع معدلات البطالة في القطاع، ناهيك عن انخفاض الأنشطة الاقتصادية في قطاع غزة والتي تعتمد بشكل مباشر على الأنفاق، وقال : “ذلك سيُساهم مجددًا في انتشار ظاهرة نبش الأطفال للنفايات بكثافة في محاولة للتعويض”.
ويؤكد الطبّاع أن حالة الانهيار الاقتصادي وندرة فرص العمل بالتوازي مع ارتفاع معدلات الفقر تجعلها تبرز بقوة، داعيًا المؤسسات المعنية في تدوير النفايات بالعمل جاهدة على تنظيم العمل في نبش وجمع النفايات، وإيجاد إحصائيات حقيقية حول أعداد العاملين فيها ومستوى دخولهم في محاولة منها لتطوير العمل بما يتناسب وآدميتهم، وشدد على ضرورة أن تهتم تلك المؤسسات بنشر التوعية حول تدوير النفايات وإيجاد آلية فرز آنية للنفايات البلاستيكية على حدة في حاويات معينة والمعدن والكرتون بما يُحقق استخدامها في عملية التدوير بطريقة مثلى ويُجنب الأطفال العبث بها، ونبه إلى ضرورة أن تحقق الحكومة بمؤسساتها المختلفة الرعاية المتكاملة للأسر الفقيرة وتنمية قدراتها بما يُحقق لها رزقًا دائمًا يُجنبهم العمل في المهن الشاقة والخطرة.
ضرورة إدارة النفايات الصلبة
وبحسب إحصائية صادرة عن بلدية غزة تلقت «الحدث» نسخة منها فإن قطاع غزة يُنتج سنويًا ما يُقارب من 900 ألف طن من النفايات توزع على ثلاث مكبات في منطقة جحر الديك شرق غزة، ومدينة دير البلح وسط القطاع، ومنطقة الفخاري شرق مدينة رفح جنوبًا، وتُفصل الدراسة كميات أنواع النفايات فتُشير إلى أن كمياتها تزايدت خلال السنوات السبع الماضية بفعل الحصار واعتماد الفلسطينيين على بضائع الأنفاق بشكل أساسي والتي كانت تستلزم زيادة مواد التغليف للحفاظ على البضائع وقالت الدراسة أن نسبة النفايات من الورق والبلاستيك تزايدت بشكل كبير فبعد أن كانت نسبة الورق في العام 2005 لا تتجاوز %9 والبلاستيك بلغت في العام 2011 نسبة الورق والبلاستيك .
ومن ناحيته لفت د. علي برهوم مدير عام بلدية رفح أن مشروع مصنع إعادة تدوير النفايات في رفح من شأنه القضاء على ظاهرة نبش الأطفال في النفايات من خلال نشر الطريقة الآمنة في التعامل مع النفايات وتوعية المواطن بفرزها في الحاويات المُخصصة والتي نشرتها البلدية في مختلف مناطق محافظة رفح لتورد مباشرة إلى المصنع بدلًا من ترحيلها إلى المكبات ومن ثمَّ نبشها وفرزها من الأطفال الذين أجبرتهم ظروف عيشهم المضنية لهذا العمل الخطير والقاسي – وفق تقديره- وبيَّن أن المصنع ساهم بتقليل نفقات نقل النفايات، وتحويلها لمواد صالحة للاستخدام من جديد، وتصدير الحديد للخارج، والورق لمصنع الورق شمال القطاع، وكذلك بالنسبة للبلاستك والزجاج، واستخراج السماد العضوي الصالح لزراعة، وتوفير فرص عمل لعشرات الأسر المحتاجة ضمن نظام البطالة. وطالب برهوم الحكومة بضرورة العمل على زيادة الاستثمار في إعادة تدوير النفايات لما له من أهمية اقتصادية، قائلًا: «الكل مدعو للاستثمار في مشاريع إعادة تدوير النفايات لأنها مدرة للدخل وتوفر فرص عمل وتخلق بيئة آمنة وصحية للمواطنين».
تغييب لحقوق الطفل
وعلى الرغم من ورود أكثر من بند في اتفاقية حقوق الطفل تؤكد على حمايته وكفالة العيش له بكرامة إلا أن أي منها لم يُنفذ في الواقع الفلسطيني والأسباب كما يُخبر بها إبراهيم معمر رئيس الجمعية الوطنية للديمقراطية والقانون؛ هي تدهور الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية للمواطنين في قطاع غزة وتفشي ظاهرة البطالة والفقر بسبب الإجراءات الإسرائيلية من حصار وإغلاق وتدمير للبنية التحتية بالحروب المتتالية قائلًا لـ «الحدث» الأطفال في قطاع غزة لا يجدون شيئًا من حقوقهم الإنسانية بعد أن خطفها الاحتلال بآلته العسكرية وأنهى تفاصيلها بحصار وفقر أجبرهم على خلع ثياب الطفولة والتخلي عن حقوقهم لينعموا فقط بحق الحياة».
أعراض اجتماعية ونفسية خطيرة
إلى ذلك بيَّن د. درداح الشاعر، أستاذ علم الاجتماع بجامعة الأقصى، أن البيئة النفسية والاجتماعية التي يعمل الاحتلال على إيجادها من خلال الحصار الاقتصادي حيث يرزح ما يُقارب من %38 تحت خط الفقر، حرمت الأطفال براءة الطفولة وتفاصيل اللعب واللهو والمرح وجعلتهم يعيشون حياة الرجولة من تحمل المسؤولية في الإنفاق على الأسرة أو رعاية الأشقاء.
فيما حذر الأخصائي النفسي ببرنامج غزة للصحة النفسية د.سمير زقوت من أن يؤدي الفقر بالأطفال إلى انحرافات سلوكية وأخلاقية، مؤكدًا أن الفقر بالنسبة للإنسان وللأطفال على وجه التحديد أحد العوامل الأساسية في التأخر من جميع النواحي الصحية والدراسية، داعيًا إلى ضرورة إلحاق الأطفال في المناطق الفقيرة والمهمشة ببرامج مؤسسات رعاية الطفولة لتتمكن من إيجاد سبيل لتوفير احتياجاتهم سواء الأساسية والحد من بحثهم عن ما يسد رمقهم وعائلاتهم بين النفايات.
وحذر د. زقوت من أن يقود شعور الحرمان الذي يتولد لدى هذه الشريحة من الأطفال إلى اليأس والقنوط أو يولد لديهم حقد وكراهية على المجتمع الذي لم يهتم بهم ولم يقدم لهم أيًّا من الخدمات التي تحفظ كرامتهم، وأضاف: نخشى أن يُصيبهم اضطراب وانحراف في السلوك يتحول إلى جريمة.
ودعا د. زقوت إلى ضرورة: «إيجاد جهود مشتركة بين كافة المؤسسات الدولية والأهلية والخاصة لوضع مشروع وبرنامج متكامل يهدف إلى إيصال خدمات متنوعة لجمهور الأطفال».
مطالب وتفاعلات
فيما طالب إبراهيم معمر مؤسسات المجتمع المدني بالسعي إلى دمج الأطفال المهمشين في برامجهم وتخصيص أنشطة ترفيهية تثقيفية حقوقية للمساهمة في نشر التوعية في أوساط الأطفال وذويهم، وأهاب بالسلطة الوطنية الفلسطينية بضرورة العمل على سن تشريعات تضمن الحياة الكريمة للأطفال وتوفير الحد الأدنى من مستوى معيشي ملائم.
ومن جهة أخرى قال رئيس الجمعية الوطنية للديمقراطية والقانون ومقرها «رفح» جنوب قطاع غزة أن جمعيته ستسعى في المرحلة القادمة إلى استهداف الأطفال المهمشين في جنوب قطاع غزة والعمل على نشر الوعي القانوني بطرق جديدة بينهم، في محاولة لدمج تلك الفئة في المجتمع الفلسطيني، مؤكدًا أن الجمعية نجحت في الفترة السابقة ضمن مشروع «مساواة» الذي تنفذه بدعم من برنامج الأمم المتحدة الإنمائي، من تعليم 30 طفلاً مفاهيم حقوق الإنسان وخاصة حقوق الطفل، وإكساب الأطفال مفاهيم جديدة مثل العدالة والمساواة والحق في الوصول للخدمات الأساسية، وكانت النتيجة الفعلية أن استطاع الأطفال المُدربون عرض حقوقهم ضمن محكمة صورية كانت الأولى من نوعها في جنوب قطاع غزة، تمكنوا خلالها من تجسيد الواقع الصعب الذي يمرون به في قطاع غزة من استغلال وعمالة وتسول