الإثنين  25 تشرين الثاني 2024
LOGO
اشترك في خدمة الواتساب

الكتائب الصغيرة.. أحلام كبيرة لجنرالات بريئة

2015-08-25 12:12:59 AM
 الكتائب الصغيرة.. أحلام كبيرة لجنرالات بريئة
صورة ارشيفية
 
الحدث – ندين نخلة
 
قد تملي علينا معايير الصحافة أن نبحث دوماً عن القصة والصورة التي يجب أن تصل للقارئ، وقد يبحث الصحفي عن غرابة الموضوع الذي سيثير فضول القارئ، وقد يملي علينا الإنسان بداخلنا أن نعود لبطل القصة مرة، ونتوقف لسماعه مرات كثيرة، حتى لو كنا قد كتبنا نهاية بلاغية أثّرت في نفس المتلقي عند انتهائنا من القصة.
 
هناك معيار نتجاهله بالعادة، وهو متابعة الموضوع، ليس فقط من أجل سبق صحفي. ولكن رداً لنداء المهنية أيضاً.

كنت قد التقيت الكتائب الصغيرة في مخيم الجلزون قبل حوالي عامين من الآن، وقد حان الوقت لأكمل القصة من حيث توقفت ضمن معالجة أعمق.
 
كصباح كل جمعة في مخيم الجلزون اقتحمت رائحة طابون أم محمد، بيوت الجيران الذين يسكنون في بيت يبعد عن بيتها مسافة نافذة صغيرة. هذا المنبه الشمي الذي يفتح عيون مسعود ابن الحادية عشرة على ضوء الشمس المنعكس من زجاج نافذة البيت المجاور.

إذا بصوت حجارة تقع على سطح المنزل، وبين الحجر والحجر، صوت طفل خافت ينادي "مسعود.. مسعود".

قفز مسعود عن السرير متجهاً كالعادة لإجابة هذا النداء، فهذا وقت استلام مسعود حصته من خبز أم محمد، جدة كريم ابن التسعة أعوام.

"يوم الجمعة فش إشي فيه غير، كل جمعة نفس الثانية.. إلا إذا كان في شهيد"، إذاً كما أخبرنا مسعود، يوم الجمعة له ولأصدقائه منتظم إلا في حالات الطوارئ!

يمشون عبر الأزقة لشراء الفطور المشترك، ويجلسون بجانب طابون أم محمد، مطالبينها بالغناء لهم، الأغاني التراثية التي تحكي عن البلاد وعن اللجوء.

بعد الفطور يبدأ التجهيز لجولتهم التي اعتادوا عليها في المخيم. الكوفية الفلسطينية، الحطة الحمراء والعصمة الخضراء.. انتشلها "قسام" بسواعده الصغيرة لتوزيعها على كتائب المخيم، هو المسؤول عن زي الكتائب، يثبت اللثام بعد أن ينتهي كل منهم من ارتداء الزي الموحد الذي اشتروه بديلاً عن لباس العيد، ويقول متنهداً: "هيهم احتلوا الاقصى واحتلوا بلادنا، إحنا بس لو نحط إيد ع إيد منرجع جميع حقوقنا". لمعت أعين المجموعة وكأن صوتاً يصرخ من داخلهم بأنهم يريدون الوحدة، ولا شيء سواها.

الكتيبة 194 هو آخر اسم أطلقوه على أنفسهم، "بتعرفيش ليش 194؟ قرار حق العودة، إحنا لاجئين تنسيش يعني".
 
كيف لمن ينظر بأعين قائد صغير مثلك يا مسعود أن ينسى، قد تتغير معالم المكان، حتى الإنسان، وقد تصيبنا الشيخوخة وننسى، لكن عيونك ستبقى بحدتها تذكرنا، وتصلح وجهة بوصلتنا.

 يتأكدون من جهوزيتهم قبل الانطلاق بين أزقة المخيم، أسلحة بلاستيكية لتلك السواعد القوية، يحملونها بأيمانهم مع ألعاب نارية، ووجهتهم الأولى نحو مقبرة المخيم، فكيف للكتائب أن تثأر للشهداء قبل السلام والتسليم على أرواحهم؟
"إحنا منيجي هان عشان الشهداء والأبطال، إحنا منيجي هان منطقع وبرُد الصوت لبيت إيل".

بيت إيل، أوَلم تكن تلك هي غصتهم الأولى؟! خمس دقائق بين الحصص المدرسية، بعد إرهاق وملل، يحتاج الطفل إلى متنفس، يطل من نافذة الصف ليراها أمامه، فيغص أكثر.. ولذا لأطفال المخيم بين الحصة والحصة.. غصة!

أيقنت "الحدث" أهمية التوجه لمحلل نفسي، لماذا اختار مسعود والأصدقاء هذه اللعبة؟ ولماذا استبدلوا كرة القدم ببارودة كذابة؟ لماذا خلعوا لباسهم مختارين بزَات عسكرية؟

طارق مطر محلل نفسي، أوضح لـ"الحدث" أنه لا يمكن للإنسان أن ينفصل عن سياقه التاريخي والاجتماعي الذي يعيشه، وهذا السياق الذي يعيشه يفرض عليه نمطاً معيشياً معيناً.

وأضاف مطر أن الطفل الفلسطيني بشكل عام، وابن المخيم بشكل خاص هو إنسان مضطهد، والإنسان المضطهد عادة ما يبحث عن خلاص.

في حالة الإنسان العادي، ستراه يقاوم الاضطهاد، ذلك ما لا يستطيع أن يفعله الطفل، فتراه يتوجه للعبة المقاومة، لذلك قد تلحظ اختيار واستمتاع الطفل الفلسطيني بلعبة "جيش وعرب" في أغلب الأحيان.

أبيت إيل كانت السبب في أن يعي أولئك الأطفال معنى ما يفعلون؟

يجيبكم مسعود، في المخيم وقبل أن تدخلوه.. تكون المستوطنة، وعلى ذلك الشارع القريب طفل كان يبحث عن حقيبته وطفل آخر كان يلعب كرة القدم، كلاهما عادا موشمان بالدم.. أحدهم بات مقعداً والآخر شهيداً. أحدهم صديق أخوتهم والآخر جار لهم.
 
حدثنا مسعود عن استشهاد الطفل وجيه الرمحي، أخبرنا كيف سارت الجنازة، شرح جملة وتفصيلاً كيف اتسعت الأزقة الضيقة للآلاف. فمسعود هو من يكتب بيانات الكتائب الصغيرة التي يرمونها وسط المخيم، وهو أيضاً من يردد الهتافات ومن ينادي بإغلاق المحال للحداد.

مسعود صمادعة هو صاحب أقوى وأوعى الكلمات، فتراه يحوي المجموعة كقائد حكيم، يحكي لهم عن الوطن، وعن اللجوء، يحكي تارة عن أحلام وتارة أخرى عن حلول. يرفض الخيانة ولا مكان في مجموعته لمستسلم جبان، ومن لبس اللثام وجال المخيم معهم، لا مشيئة له بعد ذلك بالانسحاب.
 
صعقني الأطفال حينما استضافوني في مقرهم، في الجبل البعيد عن المنزل، القريب من المستوطنة.
 
مغارة مظلمة للاجتماعات، على سقفها عجلات الكوشوك كَلَوازم للتدريب، ونفق مهترئ نظفوه لتكتمل اللعبة.

بينما اعتبر مطر الأمر طبيعياً خصوصاً بعد الحرب الأخيرة على غزة.
 
"لما كنا نشوف اللي بصير بغزة كنا نعيط ونتمنى نستشهد"، لن تتعجب إن علمت أن هذه الجملة للطفل كريم نخلة 9 أعوام، كانت بعد حوار طويل عن أحلامه وطموحاته. "بس أكبر بدي أتجوز، أجيب ولاد، بس أكبر نفسي أكون كتائب، يعني بدي أضل بحياتي طول عمري من أنا صغير لأنا كبير.. بدي أضلني كتائب وجدع".

هذا تماماً ما أوضحه المحلل النفسي طارق مطر في سياق الحديث مع "الحدث"، فبرأيه أن طفل المخيم المضطهد، الذي اختار لعبة المقاومة رفضاً للاضطهاد، لن يكون في المستقبل شخصاً عادياً، فمن يرفض الاضطهاد اليوم لن يقبله في الغد.
 
"شباب هسا ع المخيم" انطلقت الكتائب مرددة "يا محلاه قاتل جنود، ضباط وحرس حدود".

وجابوا حارات مخيمهم بعرض عسكري اعتاد أهالي المخيم على حضوره.