الحدث – آيات يغمور
وراء تلك الابتسامة الواسعة، التي غالباً ما تصحبها لمعة طفيفة فوق عين أرهقتها هموم الحياة، هناك ووراء الأبواب المغلقة، التي يحيط بها جدران أحبطت من كثرة الأصوات المرتفعة التي لطالما انتهت بضربات جسدية وجهها أحدهم لأخته أو زوجته أو حتى طفلته، هناك حيث الحيز الخاص يجعل من الحكاية وهماً طالما أغلق الجميع فمه وأبقى تلك الانتهاكات محض كوابيس ليلية يعيشها ضحايا العنف.
وبالرغم من وجود قوانين "إسرائيلية" صارمة تطبق هناك في القدس وتقف عقبة في طريق المعنفين للنساء، إلا أن العديد من المقدسيات لم يسلمن من نفسيات المعنفين من رجالٍ خولت لهم أنفسهم أن تطال أيديهم وألسنتهم إناثهم اللواتي وجد بعضهن في المراكز النسوية متنفساً يخفف وطأة معاناتهن حيناً، أو مخرجاً يقودهن إلى نوافذ قانونية تجعل من مآسيهن ماضياً لابد من الخلاص منه.
المؤسسات النسوية
لعله من الخطأ أن يحكم أحدهم على تلك المؤسسات النسوية بأنها تفسد القيم المجتمعية، أو تتدخل في بنية الأسرة وشؤونها الداخلية، لكنها، وحسب ما بحثت "الحدث" عنه مع عدة مراكز في القدس، تثير في الذهن تساؤلات عديدة حول صدق نواياها في مساعدة النساء المعنفات، وهو ما يظهر جلياً من خلال إحصائيات العنف المتزايدة تجاه المرأة رغم وجود هذه المؤسسات المنشغلة بعقد ورش عمل تملؤها أصناف الحلويات ويطغى عليها دردشات الحضور.
ومن المؤسسات النسوية ما سلم من هذا كله، والتي تحاول جل جهدها أن ترفع بعضاً من معاناة من وقعن ضحية للعنف الأسري، تقول إلهام مسودة العاملة في مركز العمل المجتمعي الكائن في مخيم شعفاط: "يأتي لزيارة المركز النسوي من ثلاثين إلى أربعين سيدة يومياً، يشاركن في ورش العمل التي تساعد في إفراغ الطاقات السلبية وتستمع لهؤلاء السيدات".
في حال كون العنف الموجه للسيدة جسدياً ويشهد نوعاً من التصعيد، توضح مسودة: "هنا نكون وصلنا للمرحلة العلاجية التي تحتاج إلى مساعدة من قبل مؤسسات مختصة كالشؤون الاجتماعية ومركز القدس للإرشاد النفسي والاجتماعي".
وبطبيعة الحال لا تسلم المنطقة من النزاعات العلنية التي يلجأ المركز إثرها لخيار "الحل العشائري" والذي تراه مسودة متطلباً طبيعياً في هذه المنطقة تحديداً، والتي تعاني من اكتظاظ في السكان وانعدام الحيز الخاص فيها.
ولم تغفل مسودة عن إطلاعنا على بعض الحلات التي يصل بها الأمر إلى أن تقوم ضحية العنف وهنا "الزوجة" بإجراء مكالمة هاتفية مع مركز الشرطة "الإسرائيلية" والإبلاغ عن زوجها، الأمر الذي تراه مسودة غير محبب كون هذه الشرطة لم تعد لحماية المقدسيات بقدر ما هي شرطة تمثل جيش الاحتلال بصورة أو بأخرى.
وفي سيناريو مكمل، نرى سجلات لدى وزارة الشؤون الاجتماعية التابعة لبلدية الاحتلال في القدس، مليئة بالبلاغات التي سجلتها الشرطة بحضور المرشد الاجتماعي الذي تخول له سلطات الاحتلال أن يكون طرفاً قانونياً في حال رفع الأمر لمحكمة الصلح.
وحسب ما أفاد به مركز الأسرة الكائن في مدينة بيت حنينا فإن أكثر من 3000 حالة عنف تم تسجيلها في الشهور الثلاثة الأخيرة في منطقة القدس وحدها، وهو ما تم تسجيله رسمياً فحسب، 3000 حالة تراوحت ما بين ضحية عنف أب أو أخ أو زوج.
وهناك أنموذجٌ آخر للمراكز المساندة للمرأة وهو "مركز المرأة للإرشاد القانوني والاجتماعي"، الذي يعمل على مستويين الأول اجتماعي وتقوم به الباحثة الاجتماعية رانية سنجلاوي التي أوضحت لـ"الحدث" الخدمات التي يقدمها المركز من الناحية الاجتماعية: "تأتينا حالات عديدة من المعنفات ونحن نولي أولوية لقضايا الطلاق والنفقة والحضانة وما يصاحبها من مشاكل نجمت عن المؤسسة الزوجية من عنف اقتصادي أو جسدي أو نفسي".
ومن الناحية القانونية تضيف سنجلاوي: "يقدم المركز خدمات استشارة قانونية مجانية إضافة إلى توكيل محام خاص بالمرأة المعنفة التي بحاجة إلى مساعدة دون أن تقلقها الإجراءات المادية".
إفادات ضحايا العنف
تقول الضحية (رقم 1): "لتصبح ضحية عنف عليك المرور بعدة مراحل، أولها يبدأ بالإنكار، يأتي هذا غالباً للمحافظة على رباطة جأشك، يليها محاولة المقاومة التي ما يتم إحباطها غالباً، ليقودك الأمر لمرحلة التبلد فتصبح معتاداً على التعنيف، وإذ بالعنف يصبح طبيعة بشرية، وهنا يكمن الخطر، في أن ترى نفسك ضحية أمر طبيعي فتعتاده، لكن اللجوء إلى المراكز المختصة بالعنف والأسرة وحقوق المرأة وحتى الإرشاد النفسي وصولاً بالمحاكم القانونية يحتاج إلى أكثر من ذلك، يحتاج إلى فهم طبيعة المعنف أملاً في الخلاص العاجل".
وتحدثنا الضحية (رقم 2) من مرحلة وصفتها بـ"التعافي": "أخبرني معالج نفسي لجأت له بعد أن فقدت الأمل في أن أجد مخرجاً قانونياً، إن الانفصال عن الضحية عاطفياً يجعل العنف الواقع أخف وطأة على النفس، وهو ما وجدته طريقة واقعية تحاكي مجتمعاً يرفض انفصال الفتاة عن والديها حتى لو وقعت في خانة العنف".
وتضيف: "هذا ليس حلاً دائماً وأنا أعي ذلك جيداً، لكنه يساعدني في الاستمرار والمقاومة إلى حين الوصول إلى الحالة المادية والاجتماعية التي تسمح لي بالانفصال الفعلي والحقيقي عن المعنّف".
"ليس من السهل الحديث عن المعنف حينما يكون والداً، حينما يكون سنداً راعياً حامياً داعماً مربياً، حينما كان في أيام الطفولة بطلاً فارساً أو حتى قدوةً"، تروي لنا الضحية الثالثة عن معنّفها الذي لم تعترف في داخلها يوماً أنه هو ذات الوالد: "ربما ليس خطؤه وحده، فيشاركه مجتمع بأكمله بهذه الخطيئة التي تفشت بين عدد من الآباء أو حتى الأخوة والأزواج".
وتضيف: "لكن معنّفي مارس عنفه اللفظي والجسدي على والدتي أيضاً، هو نوع من السيطرة ليشعر بالأمان"، "أشفق على هذا الكائن التعيس الذي يستجدي سعادته على حساب من حوله فتراه يتخبط بنفسه ناشراً أذاه على فلذات كبده".
وحول الحل الذي تراه هذه الضحية ممكناً تتابع: "الشخص المدمر نفسياً لا يمكن الخلاص من أذيته سوى بالابتعاد عنه، وأرجو من الله أن يجعله سعيداً بعيداً".
المنحى القانوني
عند وصول المرأة التي تعرضت للعنف جسدياً كان أو اقتصادياً للمحاكم "الإسرائيلية"، تصبح القضية بيد محام مختص بشؤون المرأة المقدسية في محاولة منه لتحقيق بعض من حقوقها الضائعة.
وتشير المحامية سناء دويك المهتمة بقضايا المرأة إلى الخطوات الإجرائية التي تتبعها: "في البداية نحاول تجنب توجه السيدة للشرطة الإسرائيلية والسبب سياسي بحت"، وتضيف دويك: "الهدف من المحاكم هو الوصول إلى تفاهم مشترك وليس الطلاق بالدرجة الأولى، وهنا نلزم الزوج في (هذه الحالة) بعدم التعرض للزوجة بوجود كفلاء من طرفه".
وعند تأزم الأمور وتكرار العنف تؤكد دويك: "الآن نصل إلى مرحلة رفع دعاوي لتحصيل النفقة والحضانة مع إعطاء فرصة للحل قبل الوصول إلى مرحلة الطلاق".
وفي حال إصرار الزوجة التي تعرضت للتعنيف على السير في إجراءات الطلاق تفيد دويك: "نقوم بطبيعة الحال برفع دعوى طلاق في المحكمة الشرعية بحجة قانونية تفيد بأن الزوج هو المتسبب في إفشال الحياة الزوجية".
وتوضح أن الإجراءات القانونية المتعلقة بالعنف الموجه ضد الزوجة مستمرة، ففي حال تعرضت للتعنيف مرة أخرى بوجود سجل لدى الشؤون الاجتماعية بحق الزوج المرتكب لفعل العنف، تقوم المحكمة بسجنه أو تغرمه غرامات مالية إضافة إلى إجباره على القيام بالخدمة الاجتماعية.
ليس ذلك فحسب، بل تستطيع المرأة المعنفة أيضاً أن تستصدر حكماً من محكمة شؤون العائلة لضمان حمايتها تحت قانون "منع العنف في العائلة" الصادر سنة 1976، والذي يضمن عدم اقتراب المعنف من ضحيته في مكان السكن أو العمل، حسب ما أفادت به المحامية المختصة بقضايا المرأة في القدس سناء دويكات.
الإرشاد النفسي
"تخضع الضحية لعدة أشكال من العنف"، بحسب الأخصائي النفسي طارق مطر، مشيراً إلى أن النفس البشرية تحتاج إلى تفريغ العنف، ويكون التفريغ في حالة مجتمع يخضع تحت الاحتلال، من خلال التوجه إلى الحلقة الأضعف فالأضعف"، وهو العنف الجنسوي الذي يقصد به عنف الرجل تجاه المرأة والتي بدورها تفرغ العنف الموجه لها عبر أطفالها، لتستمر دائرة العنف بالدوران.
ويضيف مطر: "عندما ينتقل العنف إلى الأطفال الذين يلجأون إلى تفريغ شحناتهم ببعضهم البعض، يتحول العنف من كونه عمودياً من الاحتلال إلى الذكر فالمرأة فالطفل، ويصبح أفقياً بين الأطفال أنفسهم".
وعن ملامح ضحية العنف، يقول مطر: "في ذاتها تشعر الضحية بدونية سببها حالة العجز عن محاربة العنف الموجه إليها ما يفقدها تدريجياً ثقتها بذاتها ويرفع من ثقة الشخص المعنّف".
من جهتها، المعالجة النفسية شيرين عابدين تطرقت إلى بدايات العنف قائلة: "هناك عنف بيولوجي متعلق بالموصلات العصبية التي تجعل الشخصية أقل هدوءاً وأكثر عصبية، وهناك عنف ناتج عن التنشئة المجتمعية وتبدأ بالظهور منذ الطفولة، فنلحظ وجود اضطرابات الرفض والمعارضة وهي التي تتنامى إذا لم يخضع لعلاجات مبكرة".
وتشرح عابدين لـ"الحدث" عن الاضطراب الذهني الذي يمكن أن يكون الممارس للعنف ويعاني منه، والتي تفصله إلى قسمين: الأول ثنائي القطبية وهو أن يشعر "المعنف" بالشك تجاه ضحيته في أي فعل أو قول فينشأ نوع من الغضب نتيجة تهيآت تتراود في ذهنه، تجعله يبرر لنفسه العنف اللفظي أو الجسدي في أغلب الأحيان"، وتضيف: "هناك أيضاً انفصام الشخصية والذي يحتاج إلى عدة جلسات ومتابعات علاجية نادراً ما تحصل نتيجة الرفض المجتمعي لمفهوم العلاج النفسي".
وتحاول عابدين تفسير شخصية الضحية التي تتسم غالباً بالضعف نتيجة عاملين، أحدهما تربوي ناجم عن أول خمسة أعوام منذ الطفولة، والآخر مجتمعي مارس العنف والتهميش على المرأة بشكل يومي، وبالتالي تصبح الضحية معتادة على العنف ومتقبلة للتهميش".
وذكرت عابدين أسلوباً تربوياً ألا وهو "التعليم بالنمذجة" في إشارة إلى ممارسة الأب للعنف على الإبن أو الزوجة، غير مراعِ للنموذج الذي يخلقه لأطفاله والذي بدوره يطلب منهم عدم استخدام العنف كأسلوب للمعاملات الحياتية.
وتناولت زاوية التوجه للقانون كمخرج من حالة العنف، فكان موقفها تجاه هذه الزاوية مرتبط بحالة المعنف النفسية، قائلة: "إذا كان المعنف مريضاً نفسياً وتم إحالته للقانون فيمكن أن يتولد داخله شعور بالذنب وتأنيب الضمير تجاه الضحية، أما إذا كان المعنف شخصية معادية للمجتمع فهنا يكون فاقد لأي شعور يمكنه من التعاطف مع الطرف الآخر، وبالتالي لا يملك قدرة على المسامحة ويوتر الأمور ويزيدها حدة تبعاً للشعور بالخيانة التي تولد لديه غضباً وحقداً أكبر نتيجة التوجه للجهة القانونية".
الجانب المشرق
بعيداً عن الشعارات التي لطالما سمعتها تلك النسوة من مراكز حقوقية ونسوية، إلا أن الغالبية العظمى ما زالت مؤمنة بوجود قوة أكبر، تحمل عنهن عبئاً أثقل، وتنير لهن طريقاً آخر يصطحبهن بعيداً عن عصر الجهل والظلمات.