لا يختلف اثنان على وصف الحالة المزرية التي وصلت إليها الأمة العربية في السنوات الأخيرة، وعند تحليل الأسباب والعوامل التي أدت إلى هذا التردي، سنجد ما لا حصر له من الآراء المتباينة والمتناقضة، فعادة يستسهل الكثيرون إرجاع الأمر إلى مؤامرة كونية، أو إلى تدخل الأطراف الخارجية، أو إلى حقد الغرب على الإسلام، أو إلى مخططات كبرى تشرف عليها وتنفذها المخابرات الأمريكية، أو إلى حقد فارسي على العرب والعروبة، أو إلى أطماع تركية تستهدف إعادة الأمجاد العثمانية، أو بسبب إسرائيل...
وبتحليل الوضع بصورة منطقية موضوعية دون التقليل من أهمية الدور الخارجي، وبالإقرار بوجود مخططات غربية وأطماع قوى إقليمية، سنجد أن العوامل الذاتية وأسباب الضعف الداخلي، والطريقة العقيمة التي نتعامل فيها مع الأحداث والقضايا الكبرى، هي الأسباب الرئيسية للحال التي وصلنا إليها، وإليكم بعض الأمثلة التي تدعم هذه الفرضية:
في الحرب الأخيرة على اليمن، كانت إيران هي المتهم الأول، ووُصف الحوثيون أنهم أداة إيرانية للسيطرة على باب المندب مدخلًا للانقضاض على السعودية، ومن ثم تهديد أمن الخليج العربي برمته ... حسنًا، قد يكون هذا التحليل فيه جانب من الصواب، ولكن أليس الحوثيون من أهل اليمن الأصليين الذين يعيشون على الأرض اليمنية منذ مئات السنين ومن مواطنيها الطبيعيين؟ أم أنهم دخلاء وطارئون ومجموعات غريبة تسللت للبلاد بليل (ما فيه ضوء قمر؟) والسؤال الأهم، لو حصل الحوثيون على حقوقهم الطبيعية، ولو أحسّوا بالكرامة والأمان، ولو لمسوا بعض العدل والمساواة؛ هل كان بوسع إيران أن تحرضَهم على دولتهم؟
السودان خاض حرباً أهليّة لأكثر من عشرين سنة، كان النظام خلالها لا يكفُّ عن وصف جماعة "جون غارانغ" بالعميلة، وأنها من أعداء الإسلام، ويعتبر محاربَتها جهاداً في سبيل الله ... ثم فجأة يتصالح الطرفان، ويوقّعان معاهدة سلام، ويصبح "العميل الكافر غارانغ" نائباً للرئيس المؤمن عمر البشير! ثم بعد ذلك مباشرة، يوافق "البشير" على تقسيم البلاد وسلخ ثلثها بعد أن استنزف كل مقدرات الدولة وخيرةَ شبابها في حرب عبثية كان بالإمكان تفاديها منذ البداية.
وقبل التقسيم خاض النظام حربًا من نوع آخر في إقليم دارفور، استخدم فيها عصابات "الجانجاويد" للتنكيل بأهل الإقليم، نجم عنها تصفية الآلاف منهم، وتهجير الملايين تحت شعار الدفاع عن الإسلام، والتصدي للمؤامرات الغربية، علمًا أن كل سكان دارفور مسلمين سُنّة !!
إبّان الغزو الأمريكي للعراق، استغرب البعض سرعة سقوط النظام، وأثيرت الأقاويل حول الاختفاء المريب للجيش، وجرى الحديث عن خيانات وعمالة الخ... لكن لم يسأل أحد جدّيّاً عن الأسباب الحقيقية لسلبية الشعب، وتخلي أقرب المقربين من النظام عنه في اللحظة الحاسمة. ثم بعد السقوط دخلت البلاد في فتنة طائفية، وأثيرت الاتهامات ضد الشيعة (وإيران) ... وأيضًا لم يتذكر أحد تلك العقود الطويلة التي عاشها الشيعة وهم مهمَّشين ومقموعين. ثم بعد ذلك جاءت داعش، وأثيرت الاتهامات للسنّة أنهم مؤيدون للإرهاب، وتكررت نفس العقلية ... لم يتنبه أحد للقمع والتهميش الذي عانت منه المحافظات السنية، ما دفع بعضها للقبول بأي بديل عن الوضع القائم ... وفي المحصلة وُجّه الاتهام للأيدي الخارجية التي تثير الفتنة الطائفية! والآن لنسأل أنفسنا بصراحة: لو لم تكن هناك أرضية خصبة لتقبُّل الفكر الطائفي، ولو لم يكن الناس يفكرون ويتصرفون بطريقة طائفية، بوعي أو بلا وعي؛ هل يكون لأي قوة خارجية القدرةَ على أن تثيرَ فتنةً من هذا النوع؟
على سبيل المثال، إذا حدث قتال بين عائلتين سنّية وشيعية في أقصى الأرض؛ فإن أبناء كل طائفة في كل أرجاء المعمورة سينحازون بشكل تلقائي ودون تفكير لأبناء طائفتهم، سيرونهم مظلومين يدافعون عن الحق ... والطرف الثاني إرهابيّاً مجرماً قاتلاً ! إذن، هل الفتنة الطائفية صنيعة غربية، أم هي فيروس يعشعش في عقولنا ؟
أما سورية، فتعيش وضعاً مأساويّاً لم يكن وارداً حتى في أسوأ كوابيسها. النظام يتحدث عن مؤامرة دوْلية تستهدف "محور المقاومة" و"قلعة العروبة"، والمعارضة تُحمِّل النظامَ وحده كل المسؤولية عن المجازر والتدمير والخراب وفقدان الأمن... لكن ألا يتحمل المسؤولية من نزَع عن الثورة سماتها السلمية والشعبية وحوّلها إلى أعمال عنف، وأولئك الذين حولوها إلى اقتتال طائفي، ومن تحالفوا مع القوى الخارجية والعصابات التي اجتاحت البلاد من كل أرجاء الأرض؟ وفي المقابل، ألم يكن بوسع النظام إسقاط هذه المؤامرة من البداية وتجنيب البلاد ويلات الحرب، لو أنه أحسن التصرف في المراحل الأولى للثورة واستجاب لمطالبها الإصلاحية المشروعة، وأعطى للشعب قليلاً من الحرية والكرامة وحرية التعبير؟
في ليبيا، قبل انهيار الدولة، كان الجميع يحمّل النظام وحدَه كل المسؤولية، ولكن تبين لاحقاً أن مقتل القذافي كان البداية الفعلية لموجة العنف والخراب والفوضى التي عمّت البلاد. كذلك الأمر في مصر التي بدّلت أربعَ رؤساء في سنتين، دون أن تتمكن من معالجة أزمتها ... ويبدو أن المشكلة ليست في الحكومات فقط؛ بل أيضاً في الأحزاب السياسية والنخب والمثقفين وحتى الجماهير، إذْ أخفق الجميع في فهم أسباب الأزمة وكيفية معالجتها، والارتقاء لمستوى الحدث، والتحرك في الاتجاه الصحيح.
الأنظمة العربية أيضاً أخفقت في التعامل مع أزماتها منذ بداياتها، وتصرفت كل دولة مع مواطنيها، (خاصة إذا كانوا من أقليات أو مجموعات متمايزة طائفيًّا وإثنيا أو حتى من قوى سياسية معارضة)، بالمنطق الأمني ومنطق البطش والقمع، وتعاملت معهم بطريقة عقيمة دون أن تحاول رؤية أي أفق استراتيجي مستقبلي، أو تفتح أي حوار على قاعدة احترام التعددية، وكانت تنتظر المشكلة حتى تتفاقم وتبدأ الشعوب بالتحرك والاحتجاج، فيكون حينها قد فات الأوان.