يَحضُرني هنا - وبمناسبةِ ما يجري من محاولاتٍ لإعادَةِ صياغة عضويَّة اللجنة التنفيذيَّة في منظمة التحرير الفلسطينية - عنوان الكتاب الشَّهير الّذي صدر في منتصف سبعينيّات القرن الماضي، بعنوان فلسطيني بلا هويَّة، وكان قد كتبه آن ذاك الصحفي الفرنسي " إريك لورو " وقد كان الكتابُ خلاصةً للعديد من اللِّقاءَات الصحفيَّة التي أجراها " إريك لورو " مع المرحوم صلاح خلف – أبو إياد.
بالإجمال فقد كان ذلك الكتاب – وباعتقادي ما يزال – كإحدى الوثائق الَّتي يمكن الإسترشاد بها لمعاينةِ مرحلَةٍ هامَّة من مراحل النِّضال الفلسطيني، الَّتي كانَ لها ما لها وعليها ما عليها، والَّتي ترتَّبَ عليها وعلى سياقات صيرورتها جملةً من التغييرات المنهجيَّة الكبرى في مجرى الصِّراع العربي الإسرائيلي وفي سياقات التَّطوُّرات التي اعْتَرَتْ القضية الفلسطينية فيما بعد وحتَّى الآن، وذلك من باب مقدار تأثير العوامل الذَّاتيَّة المتأتِّيَة على قاعدة طبيعة وتراكبيَّة العلاقات داخل بنية منظمة التحرير وبيئة العلاقات البينية بين فصائلها وما فيها من تناقضات ثانويَّة وتفاوتاتٍ واختلافات في التَّوجهات وفي حسابات الأولويَّات من جانب، ومن باب مقدار تأثير العوامل الخارجيَّة والتَّحديات الَّتي واجهت مسيرة النِّضال الفلسطيني، وأسهمت بشكلٍ جوهري في صياغة مسارات وسياقات تطورات القضية الفلسطينية بشكلٍ عام، من جانبٍ آخر.
الَّلافت في ذلك ما كان قد قاله صلاح خلف في خاتمة الكتاب، آنذاك، حول تحوُّل فصائل الثَّورة الفلسطينيَّة وتحديداً حركة فتح إلى جزءٍ من مؤسَّسةٍ بيروقراطيَّة بحكم طبيعة تشكيلها ودورها الَّذي أُريدَ منها القيام به، فقد قال في خاتمة الكتاب:
"الآن دقَّت ساعة تقديم كشف الحساب، فقد كان دخول حركة فتح إلى مؤسَّسات منظمة التحرير وبرغم ما انطوى عليه ذلك من أهميَّة على صعيد صياغة الشَّخصيَّة الفلسطينيَّة وصيانة القرار الوطني؛ إلَّا أنَّ ذلك قد جعل من حركةِ فتح جزاً من مؤسَّسة تحكمها بالتَّالي جملة القواعد والأعراف الدُّبلوماسيَّة؛ مِمَّا قد حدَّ من قدرتها على ممارسة العمل الثوري خارج الضوابط الدُّبلوماسيَّة، ومِمَّا أغرقها كذلك في جملةٍ من التناقضات الثَّانويَّة على حساب النتاقض الرَّئيسي المتمثِّل في الصراع مع إسرائيل ".
لقد كان ذلك الكلام الَّذي أدلى به المرحوم " صلاح خلف " في مرحلَةٍ مبكِّرة جدَّاً، قبل كل تلك التَّغَيُرات الجوهريَّة الحاسمة الكبرى التي اعترت المشهد الفلسطيني والمشهد الإقليمي والدَّولي، وقبل أنْ يتراجع دور منظمة التحرير ودور مؤسَّساتها كممثلٍ لعموم الشعب الفلسطيني في الدَّاخل والخارج إلى ما آل إليه بعد تشكيل السلطة الفلسطينيَّة في مطلع التِّسعينات من القرن الماضي.
عندما نسوقُ هذا المثال فإنَّما نقصِدُ التأكيد على حقيقةٍ أساسيَّة جوهريَّة تتمثَّلُ في أهميَّة الإدراك – ودون التَّقليل من أهميَّة العوامل الخارجيَّة – أنَّ إحدى أهم المعضلات الَّتي واجهت ومازالت تواجه القضية الفلسطينيَّة ومستقبلها، هي أزمة البحث عن الهوية الوطنية خارج الحسابات الخاصَّة والمناكفات البينيَّة، وخارج مفاعيل أولويَّات واهتمامات القيادات والنُّخب الفلسطينيَّة وامتداداتها وهوامشها وما لها من نفوذٍ فعليٍّ أو معياري لدى عموم الجماهير الفسطينيَّة أو لدى قطاعاتٍ هامَّةٍ منها، وخارج مفاعيل وتأثيرات أزمة البنية والتَّوجُّهات البيروقراطيَّة الَّتي اعترتْ وما زالت تعتري مؤسَّسات منظمة التحرير الفلسطينيَّة.
ولا يغيبُ عن البال هنا – وفي هذه المرحلة بالذَّات - تلك المفاعيل السَّلبية الإضافيَّة المتصلة بالحسابات الخاصَّة للفصائل الموجودة خارج مؤسَّسات منظمة التحرير حتَّى الآن، ومدى اتِّصال برامجها وسلوكها فعلياً وواقعياً بواقع السَّاحة الفلسطينيَّة وحرصها على مستقبل القضية الفلسطينيَّة – هذه البارمج وذلك السلوك الَّذي بحاجة إلى تأكيداتٍ وبراهين إضافيَّة على فلسطينيَّته على ضوءِ سلوكها تجاه الإنفعال في التناقضات الإقليميَّة والمذهبيَّة الَّتي واكبت المرحلة التي أعقبت ما اصطلح على تسميته بأحداث الرَّبيع العربي، وما أفضى إليه من تصحُّر وتبلُّد على مستوى الوجدان العربي فيما يخص القضية الفلسطينيَّة.
إنَّ ذلك يستدعي من الجميع – فعلاً وليس قولاً - إعادة الحساب في المنهج والسلوك، ومراجعة التجربة الفلسطينيَّة الجمعيَّة دون تمييز، وفق أسس النَّقد الذَّاتي ومراجعة ومحاسبة الذَّات دونما مواربة أو مخاتلة، وذلك على ضوء وعلى قاعدة الشعور بالمسؤوليَّة الوطنيَّة، وإعطاء الأولويَّة الضروريَّة لترتيب الوضع الدَّاخلي الفلسطيني، دونما التذرُّع بالعوامل الخارجيَّة الضَّاغطة، ايَّاً كانت مفاعيل تأثيرها.